قفشاتي لم تعد تضحكها - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:40 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قفشاتي لم تعد تضحكها

نشر فى : الخميس 7 أبريل 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : الخميس 7 أبريل 2022 - 8:15 م

مواقف كثيرة تقصُر حساباتنا عن الإحاطة بمختَلف أبعادها والتحسّب لآثارها غير المباشرة. نختلي بأنفسنا لتقدير الموقف ووضْع البدائل، ونتصوّر أننا توصّلنا إلى صورة كاملة لحسابات المكسب والخسارة، ثم نفاجأ بالجديد لاسيما إن كان الموقف من تلك المواقف ذات الطبيعة الإنسانية، فالمشاعر لا تخضع للعمليات الحسابية، وهي تتقلّب وتتأثر بالشيء وعكسه فلا تميل في النهاية إلا إلى ما تتصوّر أنه يحقق لها التوازُن. شاءت الظروف أن تعيش ابنتي وأسرتها في الغربة وعندما كنّا نخطط معًا- ابنتي وأنا- للمستقبل فإن هذا السيناريو لم يكن يدور أبدًا لا في حسبانها ولا في حسباني، لكن ما ينتظرنا معًا كان شيئًا آخر، فالسجاجيد المبرومة تحت كنبة الصالون وفي طياتها حبات الفلفل الأسود، وطقم الشاي الأثري الذي ورثته أمًا عن جدّة وأخاف عليه حتى من خيالي، وكراسي الأوبيسون التي أفتخر بها ولم تحبها ابنتي أبدًا ولا اقتنعَت برسوماتها.. كل هذه الأشياء وغيرها لازالت في حوزتي، أما هي فذهبَت. ذات صباح بارد وضعَت في حقيبتها بعض الملابس الثقيلة والصور الجماعية ومجلدات ميكي وبعض العلكة بالنعناع، وانطلَقَت مع والدها إلى المطار، أما أنا فلا، فأنا تخصص استقبال فقط لأنه أحنّ كثيرًا.

• • • 

صرتُ أرى ابنتي من وراء الشاشة، وعندما رُزِقت بوحيدتها باتت تزاحمها صغيرتها لتفسح لنفسها حيّزًا تلوّح لي منه عبر الشاشة وترسل القبلات الحارة إلى تتوتة. كيف كان الناس- إحنا- أيام زمان يعيشون على الترنك والتحويلة والسنترال وكابينة التليفون في الشارع ليتواصلوا مع أهلهم في الخارج؟ هذه التكنولوچيا الحديثة نعمة من الله فلولاها ما أتيح لي أن أرى هذه الحفيدة يوميًا رأى العين، ولما استطاعت أن تشهّدني على شطارتها في الجمباز وتريني آخر الحركات البهلوانية الصعبة التي تعلّمتها، فتذوب نظريًا المسافة بين هناك وهنا ويلتئم الشمل. من اللحظة الأولى التي أطلَت فيها حفيدتي عبر كاميرا التليفون الذكي كنّا نتحدث العربية، والفضل في ذلك يرجع لأمها التي لم يهرب منها أبدًا إحساسها بمصريتها ولا تعالت في يوم من أيام على لغتها العربية. بل حتى من قبل أن ترى وحيدتها النور كانت تغني لها وهي مازالت جنينًا في بطنها كل أغاني عفاف راضي للأطفال التي وعت عليها هي في طفولتها، هذه الأغاني لم تأخذ حقها المناسب في الذيوع رغم كمّ القيم الإيجابية التي كانت تسكنها. حاولَت أن تربط وحيدتها باللغة أكثر فأدخلَتها مدرسة الأحد الإسلامية، ثم هربت منها ولم تكن هي الوحيدة التي فعَلت ذلك لأسباب ليس هذا مقام شرحها، لكن ربما تحين الفرصة في مقال لاحق للشرح لأن الموضوع يستحق الاهتمام. لكن حتى بعد تَرك مدرسة الأحد حافَظَت ابنتي على مخاطبة وحيدتها باللغة العربية في البيت وفي خروجات عطلة نهاية الأسبوع وفي كل المناسبات الخاصة، وهكذا فحين تكونان معًا يصير الحذاء حذاءً لا شوز، والمشروب مشروبًا لا چوس، والدُشّ الساخن دُشّا لا شاور، والكتاب والسيارة والشارع تُنطَق كما تُكتَب بالحروف العربية لا بالحروف اللاتينية. وفي كل زيارة منها للقاهرة كانت تعود ببعض القصص البسيطة باللغة العربية وساعدها على ذلك ظهور جيل جديد من الكاتبات الشابات الرائعات اللائي أدركن أهمية تنشئة الأطفال في الغربة على اللغة العربية، فرُحْنَ يؤلفن بها قصصًا لطيفة. هكذا نشأَت الصغيرة وهي تعلم تمامًا أن لها أهلًا وبيتًا ووطنًا وعزوة وراء المحيط الأطلسي. ومع ذلك كان هناك شيء تحت الجلد يتغيَر، لم نره بأعيننا طبعًا، وفي الحقيقة فإننا حتى لو كنا رأيناه بأعيننا فماذا كان بيدنا أن نفعل.

• • •

لكل بلد ثقافته والثقافة هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل الفن والأدب والطعام والأزياء والقيم وروح الفكاهة، المكوّن الأخير من مكوّنات الثقافة مهم لأنه الذي يصنع الحميمية في العلاقات الإنسانية بين البشر، وذلك عندما يضحكون لنفس القفشات ويتندرون على نفس الأفعال ويردّون على النكتة بألطف منها، المرح ينسج علاقات حلوة تستمر وتدوم أما الحزن فإنه دخيل. اندمجَت الحفيدة في ثقافة البلد الذي تعيش فيه بالتدريج وصارت ذائقتها مثل ذائقة مجتمعه، وعندما بدأتُ ألاحظ أنها تقهقه على قفشة أراها عادية وربما حتى سخيفة لإحدى صديقاتها، كنتُ أحدّث نفسي قائلة: إما أنها تجامل صديقتها كي لا تحرجها وإما أنني أنا التي فقدت روح الدعابة، لكني لم أضع في الحسبان احتمالًا ثالثًا وهو أن تلك الثقافة مختلفة عن ثقافتي فقد كنت أظن أنني وحفيدتي في مربّع واحد. عمومًا اهتممتُ بالأمر ورحتُ أتابعه عن كثب. تتكوّر الصغيرة في حضني كمثل القطة السيامي فأمازحها بما أتصوّر أنه سيضحكها فلا تضحك، تفهم ما قلته جيدًا جدًا وتستوعب ما قلته جيدًا جدًا لكنها لا تضحك له، فالمسألة لا تتعلق بفهم المفردات لكنها تتعلق باختلاف الذائقة الفكاهية من ثقافة لثقافة. هل أغامر بأن ألقي عليها النكتة العتيقة التي كنّا نضحك لها في طفولتنا حتى تتقلّص أمعاؤنا من كثرة الضحك: مرة واحد جه يقعد على قهوة قعد على شاي؟!- أخاف أن ألقيها فلا تضحك عليها وهذه النكتة هي أيقونة من زمن الستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي ونحن نعتّز كثيرًا بأيقوناتنا ولا نقتنع أبدًا بأن الزمن راح عليها. لم أفعل إذن.. طيب، هل أقترب أكثر من عصرها ومن الألفية التي وُلُدَت فيها وأمازحها بنكات عن الهالوين وهاري بوتر وكوڤيد ١٩؟ فعلتُ ذلك فكشفَت الصغيرة عن جزء بسيط من أسنانها اللبنية، وهذا التعبير كناية عن أنها لم تشأ أن تكسفني فتصنّعت الابتسام، لكن الواقع يقول إنها لم تتذوّق ولم تستمتع ولا تريد أن تضحك، هل اعتبرتني دخيلة على عالمها؟ لا أعرف، لكن ما أعرفه أني فقدتُ وسيلة محببة للربط بين قلبينا: قلبها وقلبي، وأعرف أيضًا أن المسألة لا تتعلّق بتغيّر الزمن بقدر ما تتعلّق بتغيّر البيئة، كما أعرف أن من السهل أن نضحك معًا على كوميديا الموقف، لكن عندما نأتي لكوميديا النص فالأرجح أنه سيكون لكل منّا: هي وأنا ليلاه التي يضحك معها أو عليها.

• • •

مازالت الغربة لم تفصح لنا بعد عن كل جوانبها، كنّا نظنها غربة المكان والطقس والأخبار والصحبة والأحوال، فإذا بنا نعرف أن من جوانبها أيضًا غربة الدعابة والقفشات التي لا تنفع معها كل وسائل التكنولوچيا الحديثة. البعض منّا قد لا يعنيه هذا النوع من الغربة بالمطلق، لكن البعض الآخر يشعر أن هذا النوع بالتحديد هو من أصعب تجليات الغربة.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات