ظهر مفهوم التنمية البشرية منذ سنوات بعيدة، بل ومنذ عقود، وبرز بشكل خاص وذاع صيته فى الربع الأخير من القرن العشرين، ومثل فى ذلك الوقت طرحا جديدا ومتميزا عما كان مطروحا على الساحة العالمية فى ذلك الوقت، كما كان مغايرا للأنساق القيمية السائدة آنذاك، وسريعا ما صعد نجم هذا المفهوم أكثر وأكثر، خاصة بعد تبنى العديد من المنظمات الدولية له، وكان فى مقدمتها فى ذلك الوقت برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، وبدا أن أحد أوجه التركيز الرئيسى لمفهوم «التنمية البشرية» كان على الدفع إلى الواجهة بأولوية مجالات مثل الدعوة إلى زيادة الإنفاق العام على الرعاية الصحية والخدمات التعليمية وأنشطة البحث العلمى والتطوير التكنولوجى، بل ومنحها الأسبقية على اعتبارات اقتصادية تقليدية ترسخت وصارت غالبة، خاصة فى الأدبيات الغربية، وتسللت منها إلى العديد من الأدبيات فى بعض مناطق العالم الثالث، على مدى عقود طويلة، مثل التركيز فقط على معايير الربح والعائد المادى وغيرها من أولويات تنتمى إلى نفس تلك المنظومة القيمية.
ومنذ ظهوره، كان مفهوم «التنمية البشرية» موضعا للهجوم عليه والانتقاد له من أكثر من جهة، بالرغم من التباينات الأيديولوجية فيما بين هذه الجهات، وتعددت تلك الانتقادات، فمنها ما جاء من جانب الدوائر اليمينية فى الغرب، والتى أصرت على التمسك بأطروحاتها الكلاسيكية المعلية من شأن الاقتصاد وحده دون غيره، والتى تمنح للاعتبارات الاقتصادية المادية فقط الحق فى تحديد قواعد اللعبة، بل ولاتخاذ القرارات المصيرية والجوهرية بشأن مسار المجتمع المستقبلى فى مختلف مناحى الحياة، وكان لهذه الرؤى صداها أيضا لدى دوائر ترفع لواء الليبرالية الاقتصادية فى بلدان الجنوب فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ومن جهة أخرى، تعرض المفهوم ذاته للكثير من الانتقادات من جانب حكومات فى الكثير من دول العالم، حدث هذا فى بعض البلدان المتقدمة ذاتها والتى رغبت أن تبقى الباب مفتوحا على مصراعيه أمام ما يسمى بـ «الرأسمالية المتوحشة» أو «الليبرالية المتوحشة» وتحسبت من أن قوى داخل البلدان المتقدمة قد تستخدم مفهوم «التنمية البشرية» للاستقواء به فى محاولاتها، على أقل تقدير وفى أضعف الإيمان، لبناء «رأسمالية ذات وجه إنسانى»، إن لم يكن الإطاحة بالنموذج الرأسمالى ككل ممكنا فى فترة كانت قد تزامنت مع انهيار المعسكر السوفيتى وما بدا للبعض آنذاك من انهيار خيارات اليسار وأطروحاته بشكل عام، ولكن مفهوم «التنمية البشرية» تعرض أيضا للهجوم من جانب حكومات كثيرة فى بلدان الجنوب، بما فى ذلك العديد من البلدان العربية فى تلك الفترة التاريخية، وذلك تخوفا من أن يؤدى تبنى عدد من المؤسسات الدولية أو الإقليمية المعنية بتمويل التنمية للمعايير المرتبطة بالتنمية البشرية فى مجموعها، وفيها ليس فقط معايير الإنفاق على الرعاية الصحية والخدمات التعليمية والبحث العلمى والتأمينات الاجتماعية، بل كان هناك ما بدا أنه معايير ذات طابع سياسى مثل ما كان يرتبط بـ «الحكم الرشيد» و«محاربة الفساد» و«الشفافية» و«سيادة القانون» و«استقلال القضاء»، بالإضافة إلى معايير «الحفاظ على البيئة» و«حظر عمالة الأطفال»، وبما قد يؤدى إلى فرض نوع من المشروطيات الدولية والإقليمية، بل ربما والثنائية، الجديدة للمساعدات الإنمائية الرسمية، تضاف إلى قائمة مشروطيات طويلة ازدادت بالفعل بشكل تراكمى على مدى السنين والعقود، وارتبطت تلك المشروطيات فى الأساس بمعايير واعتبارات اقتصادية وتغييرات فى النظام الاقتصادى والاجتماعى لبلدان الجنوب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التحول إلى اقتصاد السوق والتسليم الكامل لآليات العرض والطلب ونبذ افكار الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتحول إلى خصخصتها، سواء فى القطاعات الإنتاجية أو الخدمية.
إلا أن التحدى غير المسبوق الذى طرحه فيروس «كورونا» المستجد على البشرية فتح الباب على مصراعيه أمام التذكير بإهمال وتقاعس الكثير من حكومات العالم على مدى العقود، خاصة بالطبع وكما هو متوقع فى البلدان الغربية المتقدمة، فى تنفيذ التزاماتها تجاه شعوبها وتجاه حكم التاريخ عليها فيما يتعلق بالإنفاق العام على الرعاية الصحية والبحث العلمى، بما فى ذلك فى المجال الطبى، من جهة، وبالاهتمام الحقيقى والتخطيط الممنهج فى هذه المجالات الحيوية لحياة شعوبها من جهة أخرى، حيث طالت يد الخصخصة الرعاية الصحية تحت ادعاء عدم وجود موارد كافية لدى الدول فى بعص الأحيان والدفع بعدم كفاءة الدولة فى إدارة الرعاية الصحية فى مقابل القطاع الخاص «الكفء» فى غالبية الأحيان، وانطلق الأمر نفسه فى بعض البلدان المتقدمة، ولنفس المبررات تقريبا، على تراجع إنفاق الدول على البحث العلمى فى الميدان العام وترك الأمر بدرجة كبيرة لمراكز أبحاث تابعة للمؤسسات الاقتصادية الخاصة الوطنية أو عبر الوطنية، أو فى أفضل الأحوال تركه فى أيدى مراكز أبحاث تابعة للجامعات، وهى فى أغلبها جامعات خاصة.
وكان الوضع أكثر مأساوية فى بلدان الجنوب، أو لنقل بمعنى أدق الغالبية منها، حيث تحول الإنفاق العام فى مجال البحث العلمى بمرور الوقت إلى الاقتصار على دفع رواتب ومكافآت لباحثين تضخم عددهم عبر الزمن، بدون أن يعكس ذلك فى الكثير من الأحوال الحاجة إليهم أو إلى تخصصاتهم وإنما تحولت الكثير من مراكز الأبحاث الوطنية العامة أو المتخصصة فى بلدان الجنوب إلى مجرد مستودع آخر للتوظيف للعمالة الزائدة، وتاهت خلال ذلك القيمة الحقيقية للبحث العلمى ودوره المفترض فى خدمة احتياجات المجتمع ومتطلباته. أما على صعيد الرعاية الصحية، فالإمكانيات أصلا ضعيفة، سواء من ناحية الموارد المالية أو من جهة البنية التحتية الضرورية من مستشفيات ومعامل ومراكز آشعة وغير ذلك من عوامل النجاح، وطالت الخصخصة للرعاية الصحية الكثير من البلدان النامية أيضا تحت مبرر عدم توافر الموارد المادية أو تخلص الدولة من عبء إدارة الرعاية الصحية وعدم الرغبة فى انتقال الطابع البيروقراطى لهذا القطاع الحيوى، كما أن الكفاءات فى العديد من الأحوال كانت متواضعة نتيجة تواضع مستوى التعليم ذاته وجودته بمرور الوقت.
أما زمن ما بعد فيروس «كورونا» المستجد فلن يكون على الإطلاق كما كان الحال قبله فى مجال دور الدولة فى قطاعات الرعاية الصحية أو تقديم الخدمات التعليمية أو فى مجال البحث العلمى والتطوير التكنولوجى، والباحثة الإسبانية التى تحدثت عن المقارنة بين مرتب الباحث فى بلدها وبين راتب لاعب الكرة لم تضف معلومة جديدة، ولكنها أفاقت الرأى العام العالمى، وربما بعض الحكومات أيضا على حقيقة صادمة ولكنها واقع عالمى، وليس فقط فى بلدان الجنوب الفقيرة، ليست وليد اللحظة ولكنها وليدة أوجه خلل تراكمت وتعاظمت منذ سنوات طويلة، ولذا فالضمان للمستقبل هو هذا الوعى الذى ولدته الأزمة العالمية للبشرية فى ضوء فيروس «كورونا» المستجد وسرعة انتشاره وضخامة خسائره، فقد أوجد حالة جديدة ومتقدمة وواسعة من الوعى لدى الرأى العام العالمى بالنتائج التى ترتبت على تخلى الحكومات عن واجباتها الأساسية فى تقديم الرعاية الصحية وضمان جودة التعليم والإنفاق على البحث العلمى وحسن تخطيطه بما يحقق صالح المجتمع، وبحيث تتحول هذه القطاعات، فعلا لا قولا، إلى أولويات فعلية على الأرض وليس فقط على مستوى الخطاب الرسمى المعلن.