إننا لن نقبل بفرض الغرب الأنجلو ساكسونى علينا لقيمه المنحرفة، ولا نرضى بالأفكار الشاذة التى يروج لها. بعد هذه المقولة، وبدون التطرق لمن الذى قالها، فإنها تجذب انتباه المعارضين للغرب، وتجذب المعارضين ضد الأفكار المنحرفة لاسيما الجنسية التى تحاول جعل الشواذ، والمتحولين جنسيا، وغيرها أمورا طبيعية. ثم إليكم الجملة التالية: «إننا نرفض هذه الأفكار ونقاومها، ولن نسمح لها بالتسلل إلى مجتمعاتنا». توحى الجملة بأن ثمة حركة مقاومة نشأت ضد هذه الأفكار، وإذا كان قائل هذه الجمل قائدا لدولة كبيرة بحجم روسيا، ومنفتحا على تنسيق المواقف مع من يتبنون هذه المعايير، فإنه فى واقع الأمر يرفع راية المقاومة ضد الغرب عموما والأنجلو ــ ساكسون خصوصا، وعلى من يريد الانضمام لهذا المعسكر أن يتقدم وينضوى تحت هذه الراية. شيء من هذا القبيل حدث فى الأيام القليلة الماضية بعد خطاب الرئيس بوتين الذى تحدث فيه عن ضم أربع مناطق من أوكرانيا، تمثل حوالى 20% من مساحتها. وفى أثناء الخطاب، أشار الرئيس بوتين لممارسات الغرب والولايات المتحدة، ولمح لتاريخهم الاستعمارى، وخرقهم للشرعية الدولية فى مناطق كثيرة ومنها العراق، وسوريا، وليبيا، حيث يضعون مصالحهم فوق كل مصلحة، ولا يكترثون بتقسيم الدول، وزعزعة استقرارها، ثم تركها تنزف، وتتحول لبيئة حاضنة للتنظيمات التخريبية، ومرتزقة الحروب، والمغامرين الباحثين عن أرض تأويهم، ولكن!
• • •
بهذا الخطاب الذى يدغدغ مشاعر الغاضبين من الغرب، توجه بوتين لدولته، وشعبه، ومن يريد الانضمام إليهما، ولسان حاله يقول إنه اختار طريقه لعالم متعدد القوى تتساوى فيه الرءوس بين الأقطاب ولا تنفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على شئون العالم. وتحدث فى خطابه عن انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى، وما نتج عنه من تغير فى النظام الدولى ونشأة العديد من الدول وبها أقليات روسية، بعضها عانى من انفصاله عن الوطن الأم ــ روسيا، وبعضهم تعرض للتهميش السياسى، والضغوط الاجتماعية، والتراجع فى المكانة الاقتصادية. وتحمل الإشارة للأقليات الروسية التى تصاحب ما يجرى من عمليات فى أوكرانيا، بأن الرئيس بوتين يريد حماية الأقلية الروسية فى كل دولة يتعرضون فيها لسياسات مجحفة، من وجهة نظره. ومن ثم، فإن هذه ذريعة للتدخل فى شئون الدول المجاورة، أو على الأقل فرض سياسات معينة ضدها. أليس هذا بالضبط ما تأخذه روسيا على الولايات المتحدة؟ أليس هذا بالضبط ما ترفضه الدول الأضعف التى تعانى من تدخلات الولايات المتحدة؟ إن أى تدخل بالقوة المسلحة لتغير أوضاع الأقلية فى دولة ما، تعنى سياسيا إعادة فك وتركيب الدول كيفما تريد القوة الخارجية، وهذا لا يصنع عالما مستقرا.
أخذا فى الاعتبار بأن تدخل روسيا فى إقليم الدونباس بأوكرانيا جاء بعد طلب الأهالى المتكرر منذ عام 2014، ومع تقدير بأن تدخلها فى سوريا منذ عام 2015 جاء بعد طلب مباشر من حكومة سوريا، بمعنى أن تدخلها دائما ما يأتى ببطء ومشفوعا بمطالب داخلية مشروعة. بعكس تدخل الولايات المتحدة، التى لا تكترث لا بمجلس أمن، ولا أمم متحدة، ولا مطالب شعبية من داخل الدول نفسها، ولا بحكومات الدول. مع التقدير لكل ذلك فإن فكرة استعمال القوة المسلحة لتغيير الوضع على الأرض لصالح ما تراه دولة خارجية أنه صائب هو الأمر الذى بحاجة إلى وقفة ومراجعة. وفى هذا السياق، ولكى تكتمل الصورة، فإن الولايات المتحدة لا تمانع فى تلفيق وتزييف الأدلة، كما فعلت من قبل فى غزو العراق، وغيرها من البلدان التى تعتدى عليها. ولذلك حتى لو نجحت سياسة روسيا وتحول العالم إلى متعدد الأقطاب، فإن هذا ببساطة يعنى أن الدول الأضعف لا تستطيع الوقوف بمفردها فى عالم مستقر. وإنما عليها دائما الخضوع أو الاحتماء بدولة كبيرة لكى تحافظ على نفسها واستقرارها. وبهذا يتضح أحد المعانى التى تقف وراء راية روسيا، «كونوا معنا لكى تكونوا فى أمان». وفى المقابل، خرج الرئيس الأمريكى جو بايدن برد سريع متوقع على خطاب الرئيس بوتين قائلا إن بلاده ستحمى نفسها ودول الناتو، وستحمى كل سنتيمتر بدول حلفائها!
• • •
والآن ماذا عن موقف العرب والدول الإسلامية، هل ستقف مع روسيا التى تعلى بعض المبادئ المحافظة القريبة من القيم التى تألفها الدول العربية والإسلامية، أم مع الأنجلو ساكسون؟ علما بأن تشخيص الرئيس بوتين للحرب فى أوكرانيا يشير لنقطة مهمة، وهى اختطاف إرادة الشعب الأوكرانى عبر اللجنة العسكرية التى تتحكم فى سياسات وتوجه الدولة حاليا، ويعتبر هذه القلة بعيدة كل البعد عن تاريخ، وهوية وصالح أوكرانيا، وتدفع الدولة بالكامل إلى الانسياق وراء أسيادهم فى الغرب. وهذه نقطة خطيرة! فعلى نفس المنوال، فإن فكرة انصياع الحكام للغرب ضد مصالح الدول هى فكرة جوهرية فى الفكر العربى والإسلامى المعاصر. ومن ثم فإن الإشارة إليها يذكى تصاعد المطالب الشعبية بالانحياز بعيدا عن الولايات المتحدة والأنجلو ساكسون. لكن رويدا، ألا يعتبر انتقاء جنس أو عرق معين وشيطنته مسألة غير أخلاقية فى حد ذاتها؟ إن الأنجلو ساكسون هم العرق أو الجنس أو القومية الغالبة فى بريطانيا، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا... إلخ. ومن ثم، فهل المطلوب استهداف عرق أو قومية من الناس؟ مثلما حدث مع العرب وبعض الجنسيات الآسيوية لمجرد كونهم مسلمين بعد هجمات 11 سبتمبر، إضافة إلى ما يتعرض له الأفارقة من تفرقة عنصرية بسبب لون بشرتهم. لاحظ أن كل هذا لا علاقة له بمن هو الصالح والطالح، فأنت متهم لكونك أمريكيا أو بريطانيا! وفى المقابل أنت جيد لكونك روسيا أو سلافيا أو حليفا لنا. فهل يستقيم هذا المعيار؟
الشاهد أن اللحظة الحالية التى يمر بها العالم تضع بعض الأسئلة المهمة أمام مختلف الدول لتقرر شكل المستقبل الذى تريد أن تعيش فيه. ومن أهم هذه الأسئلة، ليس فقط ما هو شكل العالم الذى تريد أن تعيش فيه، عالم متعدد الأقطاب أو العالم بوضعه الحالي؟ ولكن كيف تريد الدول أن تصل لشكل ذلك العالم، بالمقاومة التى تصل لحد المواجهات المسلحة، أم بالتعاون إذا أمكن؟ ثم ما هى المعايير التى تريد الدول إعلاءها؟ وإذا كان ثمة مراجعات جذرية لا بد أن تحدث بخصوص حقوق الإنسان والانحرافات التى تشوب مفاهيمه، فإن المعايير السياسية بحاجة لنفس حالة المراجعة، لاسيما تلك التى تعلى مصالح فئة من البشر لكونهم من جنس معين مقابل الآخرين. الشاهد أيضا أن فكرة المجموعة المميزة التى تحتكر صنع القرارات السياسية فى الدول تماشيا مع مصالح الغرب على حساب مصالح الدول، هى مسألة فى قلب الموضوع. وذلك لأن الكثير من الدول تريد طريقا خاصا بها ولكن حكامها منساقون وراء الغرب أو الشرق، بينما دول تريد الوسطية.