تعرضنا فى مقال سابق بجريدة الشروق (عدد يوم الخميس الموافق 2 يناير 2025) إلى بعض من أهم الأسباب الداخلية التى ساهمت فى انتهاء حكم أسرة الأسد فى سوريا فى الأسبوع الأول من ديسمبر 2024، ونحاول فى هذا المقال أن نعرض لاثنين من أهم الأسباب الخارجية التى أدت إلى انتهاء حقبة حكم أسرة الأسد فى سوريا، وذلك دون إدعاء أن هذا العرض يستنفذ كل الأسباب الخارجية لنهاية حقبة حكم عائلة الأسد لسوريا على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان، وتحديدًا منذ الانقلاب العسكرى الذى قاده الأب الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد فى نوفمبر 1970 واستولى بموجبه على السلطة فى سوريا.
وأول الأسباب التى سنعرض لها هنا هو التفاوت الكبير، ونكاد أن نقول التناقض، بين قدرة الرئيس الراحل الأب حافظ الأسد على المناورة واللعب على التوازنات فى العلاقات بين سوريا فى عهده وبين القوى المؤثرة إقليميًا والقوى الكبرى دوليًا، مقابل محدودية، بل فى بعض الأحيان ما يقترب من انعدام تلك القدرة لدى الرئيس السابق الابن بشار الأسد، خاصة على مدى العقد ونيف الأخير فى حكمه، وتحديدًا منذ انتفاضة الشعب السورى فى عام 2011.
فخلال معظم فترات حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، وربما باستثناء آخر ثلاث أو أربع سنوات فى عهد حكمه، وتحديدًا بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل إسحق رابين وتنصل القيادة الإسرائيلية التالية له ممثلة آنذاك فى بنيامين نتنياهو مما سمى «وديعة رابين»، الخاصة باستعداد إسرائيل للانسحاب من معظم الجولان السورى المحتل مقابل السلام مع سوريا، وإصرار الرئيس الأسد الأب آنذاك على التمسك بـ«وديعة رابين» مقابل دعوة الإدارة الأمريكية له بالمرونة والتفاوض من نقطة الصفر مجددًا. فباستثناء تلك الفترة القليلة فى نهايات حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، كان الرئيس الأب يجيد لعبة التوازنات بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة، فهو الذى استعان بالسوفييت لتحقيق التوازن النسبى لسوريا فى المعادلة الشرق أوسطية قبل وبعد وخلال حرب أكتوبر 1973 ثم عقب زيارة الرئيس المصرى الراحل أنور السادات إلى القدس فى نوفمبر 1977، بحيث تتحقق معادلة أنه إذا كان لا حرب بين العرب وإسرائيل دون مصر فلا سلام بين العرب وإسرائيل بدون سوريا، ولكنه هو نفسه الذى أمر قواته بدخول لبنان عبر تنسيق كامل مع الأمريكيين، وربما بشكل غير مباشر آنذاك مع الإسرائيليين، فى يونيو 1976 لدعم رئيس يمينى مارونى هو حينذاك الراحل سليمان فرنجية لإعادة التوازن بين ميليشيات اليمين اللبنانى فى مواجهة كل من الحركة الوطنية اللبنانية وحليفها المقاومة الفلسطينية، واللذين كانا على وشك تحقيق انتصار نهائى على اليمين اللبنانى لولا التدخل العسكرى السورى.
ومثال آخر، ولكن هذه المرة على الصعيد الإقليمى، تمثل فى نجاح الرئيس الراحل حافظ الأسد فى إدخال إيران عقب انتصار ثورتها فى فبراير 1979، ولو بشكل تدريجى، كلاعب مؤثر فى التفاعلات السياسية العربية وفى الصراع العربى الإسرائيلى بشكل داعم لسوريا وسياساتها، وفى الوقت ذاته تجنب أى مواجهات عسكرية مباشرة مع إسرائيل بعد المواجهة الجوية التى حدثت إبان الغزو الإسرائيلى الشامل للبنان فى يونيو 1982، والتى خسرها الطيران الحربى السورى بشكل كبير، وأصبح الشعار الذى تبنته القيادة السورية لتبرير تجنب هذه المواجهات مع إسرائيل هو ما أعلنه وزير الخارجية السورى الأسبق فاروق الشرع آنذاك من أن «سوريا لن تستدرج إلى معركة لا تحدد زمان ومكان وقوعها».
وبالمقابل، فإن الرئيس الابن السابق بشار الأسد، وبالرغم من السنوات الأولى لحكمه التى أوحت بسعيه لإحداث توازن فى العلاقات الإقليمية والدولية لسوريا، انتهى به الأمر إلى وضع كل أوراقه فى سلتين فقط، وهما الرهان على الظهير الإقليمى الإيرانى والظهير الدولى الروسى، وذلك عقب الانتفاضة الشعبية ضد حكمه فى عام 2011، ولكن بشكل أكثر تحديدًا منذ عام 2014 واعتماد حكومته الكامل على إيران وروسيا فيما بدا أنه مشهد اقتتال أهلى فى سوريا. كذلك، وبخلاف والده الذى كان فى معظم الأحوال يبقى شعرة معاوية حتى مع الأطراف الإقليمية والدولية المناهضة له ربما باستثناء مصر فى عهد ما بعد زيارة الرئيس الراحل السادات للقدس فى عام 1977، والعراق بعد تولى الرئيس العراقى الراحل صدام حسين للسلطة فى عام 1979، فإن الرئيس الابن خسر كثيرًا هو وحكومته من جراء تقطيع أوصال العلاقة بين سوريا وبلدان الخليج، بسبب هجومه المباشر على بعض قادة تلك البلدان فى أحد مؤتمرات القمة العربية قبل اندلاع «الربيع العربى».
أما ثانى الأسباب الخارجية التى نتناوله هنا ونرى أنه كان له دوره فى المساهمة فى إنهاء حكم أسرة الأسد فى سوريا، فهو أن الشرعية الرئيسية لحكم أسرة الأسد كانت قائمة على أساس مجموعة من الركائز أغلبها يتصل بشكل أو بآخر بالسياسة الخارجية والأوضاع الإقليمية.
فعلى سبيل المثال كان من ضمن تلك الاعتبارات مسألة المواجهة مع إسرائيل ورفع لواء عدم التفريط فى الحقوق العربية، وليس فقط السورية، فى مواجهة الأطماع الإسرائيلية، كما كان منها بشكل عام البعد القومى العربى باعتباره الركيزة الأساسية لأيديولوجية حزب البعث العربى الاشتراكى الحاكم فى سوريا تحت قيادة الأسد الأب والابن.
إلا أنه على أرض الواقع، فعلى مدى حكم الرئيسين الأسد الأب والإبن، وفى عصر ما بعد حرب أكتوبر 1973، والتى انتهت على الجبهة السورية بدون تحقيق الهدف الرئيسى بتحرير الجولان السورى المحتل، لم تطلق القوات المسلحة السورية أى طلقة على إسرائيل، بل إن سوريا حظرت أى استخدام لأراضيها أمام الفلسطينيين للقيام بأى عمليات فدائية ضد إسرائيل، وإن دعمت وربما سهلت عمليات فدائية من الحدود الأردنية أو اللبنانية ضد إسرائيل، وكما ذكرنا فى فقرة سابقة فإن الخسائر الضخمة التى لحقت بالطيران السورى فى المعركة الجوية التى جرت مع الطيران الإسرائيلى إبان الغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982 هزت كثيرًا من ثقة السوريين فى حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد. ولكن الأمور تطورت للأسوأ على مدار السنوات القليلة الماضية عندما اعتادت إسرائيل على استهداف مواقع عسكرية داخل سوريا، سواء كانت أهدافًا سورية أو إيرانية أو تابعة لحزب الله اللبنانى، وعجزت سوريا عن الرد أو اكتفت بالرد غير المباشر على إسرائيل من خلال حلفائها وفى مقدمتهم حزب الله اللبنانى، وأدى ذلك إلى زعزعة كبيرة لشرعية الحكم السورى فى عيون المواطنين السوريين فى ظل عجزه عن ردع أو رد الاعتداءات الإسرائيلية.
وعلى نفس الوتيرة، فإن المواقف السياسية السورية إزاء بلدان عربية أخرى، خاصة العراق حتى عام 2003، وانضمام سوريا ودعمها المطلق لإيران فى حربها ضد العراق على مدى ثمانى سنوات فى ثمانينات القرن العشرين، واستمرار التحالف الاستراتيجى وتعزيز أواصره بعد ذلك بين دمشق وطهران، وفى بعض الأحيان حدث ذلك التقارب على حساب علاقات سوريا بدول عربية أخرى. فقد أدت تلك المواقف إلى تآكل كبير، بل وإلى شرخ، فى شرعية حكم عائلة الأسد فى سوريا فى نظر قطاعات واسعة من الشعب السورى، وهو شعب بطبعه عروبى الهوى والنزعة والانتماء.
وهكذا عرضنا فيما سبق لاثنين مما نرى أنهما من أهم الأسباب الخارجية التى كان لها دورها المؤثر فى المساهمة فى نهاية الأمر فى تقويض دعائم العهد الذى حكم فيه الرئيس الراحل حافظ الأسد ونجله الرئيس السابق بشار الأسد سوريا وطنًا وشعبًا ما بين نوفمبر 1970 وديسمبر 2024، وتبقى بالتأكيد أسباب خارجية أخرى لها دورها فى هذا السياق.