منذ الحديث عن «صفقة القرن» خلال زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للبيت الأبيض فى إبريل الماضى، ودعمه للرئيس دونالد ترامب فى سعيه لحل لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لم يتحدث أى طرف بعد سواء من القاهرة أو واشنطن، أو من عواصم الإقليم عن طبيعة هذه الصفقة، وذلك على الرغم من الإرهاصات هنا وهناك والاجتهادات التى لا تتوقف عن طرح تصورات مختلفة ومتناقضة لهذه الصفقة. إلا أن أولى الخطوات العملية قد بدأت مع قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وما تبعها من صمت عربى. ولا يبدو أن هناك تحديدا واضحا لطبيعة هذه الصفقة، ولم يعبر أى من الأطراف عن تصوراته حيالها، الاستثناء الوحيد يتمثل فى تيار المسيحية الصهيونية الذى يقف وحيدا يعرف ما يريد من هذه الصفقة، ويملك تصورا واضحا لإطارها ولا تتوقف جهوده عن السعى لتحقيقها.
***
خطوط عريضة يجتمع حولها أنصار هذا التيار المعروف بدعمه غير المحدود وغير المشروط لإسرائيل، فى الوقت الذى لا يكترث فيه بأى من حقوق الفلسطينيين المنطقية والمشروعة والمتفق عليها حتى بين أغلبية الإسرائيليين. ولفهم رؤية هذا التيار المهم الذى تتبع الغالبية العظمى من أنصاره ــ الذين يقدرهم البعض بأكثر من 50 مليون أمريكى ــ العقيدة البروتستانتية، يجب فهم تأثر البروتستانتية باليهودية. وكيف نتج عن هذا التأثر تعايش يشبه التحالف المقدس بين البروتستانتية واليهودية بصورة عامة، وخلقت علاقة أكثر خصوصية بين الصهيونية اليهودية والبروتستانتية الأصولية. وتتميز حركة المسيحية الصهيونية بسيطرة الاتجاه الأصولى عليها (من أهم سياسييها حاليا نائب الرئيس مايك بينس الذى زار أخيرا القاهرة وعمان والقدس المحتلة)، وتؤمن «بضرورة عودة الشعب اليهودى إلى أرضه الموعودة فى فلسطين، كل فلسطين، وإقامة كيان يهودى فيها يمهد للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه لمملكة الألف عام». وتأثرت المسيحية الصهيونية بثلاثة توجهات يجمع بينها خلفية التفسير الدينى المعتمد على النصوص التوراتية، وعلى الرغم من تباين هذه التوجهات وتناقضها بعضها مع بعض أحيانا، فإن التفسير الحرفى للتوراة والإيمان بضرورة مساعدة إسرائيل جمع بينها، والحركات الثلاث هما: حركة تهتم بقضية نهاية العالم ومؤشراته، وحركة تهتم بقضية التقرب من اليهود من أجل المسيح، وحركة تركز على الدفاع عن إسرائيل وعلى مباركتها ودعمها بكل ما هو ممكن ومتاح.
***
يرفض هذا التيار وجود دولة فلسطينية على حدود ما قبل 5 يونيو، ويرفض عودة اللاجئين ويرفض أى حوار حول مستقبل القدس. ويكرر أنصار هذا التيار مقولات على شاكلة أنه من الجنون الاستمرار فى التعويل على حل دبلوماسى للصراع الإسرائيلى الفلسطينى. ويسخرون مما يُشار إليه بعملية سلام الشرق الأوسط حيت يتم «تكرار أحاديث الماضى وإتباع نفس المسارات وتوقع نتائج مختلفة» وذلك فى إشارة لعملية سلام الشرق الأوسط المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود دون تحقيق تقدم. ويعتقد أنصار هذا التيار أن «المبادئ البالية القديمة مثل الأرض مقابل السلام، أو حل الدولتين ــ دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيلية ــ أو أن القدس عاصمة لفلسطين أصبحت أوهاما يجب معها التمتع بالشجاعة لعدم الحديث عنها بعد الآن». ويدعو تيار المسيحية الصهيونية للتفكير الجديد لحل الصراع بعيدا عن أوهام الماضى وضرورة إدخال مستجدات الواقع فى هذه الأفكار كى يتم حسم هذا النزاع بعد الفشل فى التعامل معه لأكثر من مائة عام، منذ وعد بلفور تحديدا. وبشدة يؤكد أنصار هذا التيار على ضرورة الاعتراف بفشل عملية سلام الشرق الأوسط كى يمكن التفاعل بمنطلقات جديدة وحسم وحل الصراع.
وينطلق منطق حسم الصراع من رؤية تاريخية لصراعات القرن العشرين، وهى الصراعات التى تم حسمها بانتصارات واضحة وصريحة وباعتراف كل أطرافها ونجاحها فى خلق سلام بعد ذلك. ويستشهدون هنا بحالة الهزيمة الكاملة لألمانيا واليابان فى الحرب العالمية الثانية، والتى نعمت فيها الدولتان بالسلام الكامل بعد ذلك بعدما اعترفت أولا بالهزيمة الكاملة واستسلمت للمنتصرين.
ويستشهدون كذلك بحالة الحرب الأمريكية فى فيتنام حيت تم هزيمة أمريكا وحلفائها الجنوبيين وتحقيق انتصار ساحق لفيتنام الشمالية وتوحيدها لفيتنام وهزيمتها للخطط الأمريكية، وهو ما سمح بعد ذلك بوجود سلام وعلاقات ممتازة بين واشنطن وفيتنام. أما الصراعات والحروب التى لم تحسم بهزيمة واضحة واعتراف كامل بالهزيمة، لم يتحقق السلام فيها ولا بعدها، ويستشهدون هنا بحالة الحرب الكورية والتى امتدت من 1950 إلى 1953 والتى انتهت بهدنة فقط على الرغم من سقوط ملايين الضحايا بين الأطراف المتحاربة، وهو ما ترك النزاع مستمرا حتى اليوم، بل وهناك احتمالات للتصعيد. وبنفس المنطق يرى مفكرو المسيحية الصهيونية أن عدم حسم إسرائيل لانتصاراتها العسكرية وعدم دفعها الفلسطينيين والعرب للاعتراف الكامل وغير المشروط بالهزيمة هو ما يجعل الصراع مستمرا بلا نهاية.
***
يؤمن هذا التيار بأنه لا يجب الانتظار لحل قضية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى كى تُحل بقية قضايا وصراعات الشرق الأوسط. ويعتقدون أن أصل الصراع وقلب المشكلة هو عدم الاعتراف الفلسطينى بإسرائيل كدولة يهودية مستقلة. ويرون أن عملية السلام تجرى منذ كامب ديفيد (أربعة عقود) بدون نجاح ويبدو أن الهدف أصبح هو عملية السلام ذاتها وليس البحث عن حل للصراع. يؤمنون أنه لم يعد هناك أى إمكانية لقيام دولة فلسطينية بعدما خسر الفلسطينيون فرصة تاريخية منحت لهم بين عامى 2000 ــ 2008. يدعون الفلسطينيين لإدراك أن قادتهم والقادة العرب هزموهم وضيعوا فرصا حقيقية للسلام. يريدونهم أن يقروا بانتصار المشروع الإسرائيلى وهزيمة المشروع الفلسطينى العربى، ويؤكدون أن لا مكان لهم فى الضفة الغربية، وأن بديل دولة مستقلة يتبخر سريعا، وإن استلزم خلق دولة فلسطينية فلتكن بديلا للأردن، أو كما يحلم بعضهم بدولة تشمل قطاع غزة، وتضم سيناء.