هناك خطأ شائع بأن الليبرالية والديمقراطية هما كلمتان متماثلتان فى المحتوى والأهداف. هذا قول يجب أن يعيه شباب الأمة العربية، خصوصا بعد أن علت أصوات المنادين بتبنى الأيديولوجية الليبرالية كحل سحرى سريع لعللٍ وتخلف هذه الأمة.
الواقع أن الأيديولوجية الليبرالية معنية فى الدرجة الأولى بالفرد، بينما الأيديولوجية الديمقراطية معنية فى الأساس بالجماعة والمجتمع. ركن الليبرالية الأساسى مهووس بالفردية والحرية الشخصية، بينما ركن الديمقراطية يضع فى المقام الأول الحرية بمعانيها وممارساتها الشاملة من جهة، كما يضع فى سلم أولوياته موضوع المساواة، بكل تجلياتها، من جهة أخرى.
على ضوء هذين المنطلقين المختلفين يستطيع الإنسان أن يفهم هذه الحقيقة التاريخية: لقد وقف الليبراليون فى الغرب مع القوى المحافظة فى السياسة وأمور إدارة الدولة، بينما وقف الديمقراطيون مع قوى التغيير، وعلى الأخص قوى اليسار.
من هنا فإن حاجة الأمة العربية حاليا هى لوجود قوى ديمقراطية، أكثر من حاجتها لقوى تكتفى برفع شعارات الأيديولوجية الليبرالية، المهووسة بالفرد على حساب اهتمامها بالجماعات والمجتمعات. هذا موضوع يجب أن يكون واضحا إلى أبعد الحدود عند الشباب المناضلين والفاعلين فى السياسة. ذلك أن حاجة مجتمعاتكم العربية الملحة توفر الحريات العامة، وفى مقدمتها حرية التعبير وحرية التجمع والتنظيم السياسى لممارسة فعل سياسى مستقل عن السلطة.
الحريات العامة هى الضمان والمدخل لتوفر الحريات الشخصية، وليس العكس. وبالطبع ليس المقصود بذلك التقليل من أهمية الشخصى أمام العام، وإنما المقصود هو الأولويات لهذه المرحلة التى نعيشها.
إذن فالموضوع الديمقراطى، بأسسه ومحتوياته وأهدافه ووسائل عمله وفاعليته، هو موضوع الساعة، إذا كان الأمر كذلك لنذكر بصلب موضوع الديمقراطية المتمثل بحقين أساسيين للناس: حق اختيار من يحكمهم، وبالتالى وضع القوانين التى يعيشون فى ظلها، وحقهم فى أن تكون الحكومة معنية بصورة مسئولة وكفؤة بالصالح العام.
لكن لن يتحقق ذلك إلا من خلال انتخابات دورية حرة، وتساوٍ فى الوزن لكل صوت، ووجود ضمانات لحدوث ذلك، من خلال الحكم بالقانون وتطبيقه بالتساوى على الجميع، ومن خلال مجتمع ينعم بالحريات المدنية الكاملة. فى قلب تلك الإجراءات تقبع فضيلتا المساواة والعدالة فى حقلى السياسة والاقتصاد.
لا مكان هنا لممارسة مارسها الليبراليون الغربيون عبر القرون، وهى أن الحكم يجب أن يقتصر على أقليات متميزة بالعلم أو الهم أو الوعى أو الحقوق التاريخية أو امتلاك وسائل القوة المادية أو المعنوية، وذلك خوفا منهم من صعود الغوغاء أو الشعبويين إلى سدة الحكم.
الغوغائية والشعبوية يجب أن يحكمها وعى الناس ووجود القوانين العادلة المنظمة للحياة العامة، وليس إعطاء امتيازات لهذه الفئة أو تلك باسم الخوف من وجودهما.
***
من هنا تنشئة الأطفال والشباب، فى المدارس والجامعات، لفهم وقبول وممارسة حقوقهم المدنية، بما فيها عدم التخلى قط عن حق الانتخابات، وعدم انجرارهم فى اختياراتهم لمن يمثلهم إلى عوامل العصبيات الدينية والقبلية والنفعية الضيقة والاستزلام لهذه الجهة أو تلك. القول المعروف بأنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين هو قول صحيح إلى أبعد الحدود. والديمقراطى لا يولد وإنما يربى ليكون ديمقراطيا، فى البيت والمدرسة والنادى والمسجد والكنيسة والحزب.
ما يريده لكم، أيها الشباب بعض الليبراليين العرب وهو أن تعيشوا حياة عامة وصفها بدقة متناهية منذ حوالى قرنين أحد القلقين على مصير الديمقراطية فى الغرب. لــقد كتب ألكسيس دوتوكفيل يصف حالة المجتمع بالقول: «أرى تجمعات بشرية يدورون حول أنفسهم، يفتشون عن ملذات صغيرة لتغذية أرواحهم. إنهم يعيشون منعزلين عن بعضهم، تماما كالغرباء. عالم الواحد منهم يتلخص فى أطفالهم وأصدقائهم.
أما إخوته من المواطنين فإنه لا يرى لهم وجودا، إنه يلامسهم ولكنه لا يشعر بوجودهم. إنه يعيش فى نفسه ولنفسه فقط. ومع إنه لا تزال لديه عائلة، إلا أنه لم يعد لديه وطن.
إنه وصفٌ شديد السواد والضياع، لكنه مماثل لما يريده البعض لشباب هذه الأمة، وبالتالى لمجتمعاتنا العربية.
إن الغرب، الذى جاء بالنظام الديمقراطى، يعيش الآن أزمة ديمقراطية حقيقية. إن نجاح شخصية مهزوزة ونرجسية كالرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بالرغم من حصوله على أصوات من قبل الناخبين تقلُ فى عددها بثلاثة ملايين عن الأصوات التى حصلت عليها منافسته، هيلارى كلينتون، هو دليل على إشكالية فى إحدى الديمقراطيات الغربية.
وينطبق الأمر على أزمة الليبرالية والليبراليين فى الغرب. وهذا يفسر صدور الأعداد الكبيرة من الكتب الناقدة للحداثة والليبرالية والديمقراطية، كما تمارس الآن فى الغرب فى ظل النظام العولمى الرأسمالى المتوحش الجائر الخاضع لقيم السوق فقط.
إزاء الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية التى يعيشها الغرب، فى اللحظة الراهنة، نحذر شبابنا من السقوط الأعمى تحت سحر بعض الليبراليين العرب. إنهم يتحدثون عن إنقاذ الفرد، عن إدخاله فى عالم الذاتية البحتة المنغلقة على نفسها وحول نفسها، ولكنهم لا يأبهون بمصائر الشعوب والمجتمعات والأوطان.
هذا فكر يجب أن يصحح قبل أن يدخلنا فى أزمة حضارية جديدة.