تسارعت الأحداث بشكل كبير فى سوريا بعد لحظات من إعلان وقف إطلاق النار المؤقت فى لبنان. لقد انطلقت عملية عسكرية كبيرة من الشمال أدّت إلى سقوط حلب، عاصمة سوريا الثانية خلال يومين، دون قتال كبير. تلتها سريعا حماة. وفى حين حصلت مواجهة فى حمص، انطلقت عمليّة أخرى من الجنوب وصلت إلى تخوم دمشق. كى يتمّ الإعلان بعد ساعات عن سقوط حمص ومن ثم فرار بشار الأسد من سوريا.
الشعب السورى منهَك، خاصة فى المناطق التى كانت السلطة تسيطر عليها، من جراء العقوبات والحصار، ومن سنوات الصراع ولانفلات ميليشيات دعمت السلطة. وبالتالى أضحى الشعب مستعدًّا للقبول بأى شىء للخروج من الأوضاع التى يعيشها. لكن من اللافت أن الجيش السورى بدا أيضا منهَكا أكثر بكثير من وضعه قبل 5 سنوات بل إنه فى الحقيقة لم يقاتل. وكأن أوامر من قيادات عليا صدرت له بألا يواجه. كان ذلك واضحا فى حلب بداية، ثم فى دمشق نهاية.
كان لا بدّ من التغيير فى سوريا بعد ثلاثة عشر عاما من الصراع الأهلى الدامى، وصراع الدول بالوكالة على الأرض السورية. وبعد أن أضاعت السلطة كل الفرص للمصالحة مع شعبها رغم كل المكاسب التى وفرتها لها اتفاقيات «خفض التصعيد» فى أستانا بين الثلاثى الروسى ــ الإيرانى ــ التركى خلال 5 سنوات بغية إطلاق انفتاح سياسى داخلى فى البلاد وتعزيز «التطبيع» الذى فتحته عليها الدول العربية بتطبيع دعت إليه تركيا أردوغان، التى ليس لسوريا قدرة على مجابهة تهديداتها.
• • •
من الواضح أن هذه التطورات السريعة نتجت عن توافقات إقليمية ــ دولية كبيرة، ضبطت تحضيراتها وآلياتها. حيث كانت كل من الولايات المتحدة وروسيا طرفا فيها، مهما كان التنصل الرسمى لكل منهما. وهذا أمر لافت. فالإعداد الذى جرى فى الشمال من الناحية العسكرية واللوجستية والإدارية والإعلامية أبعد بكثير من تصرفات فصائل شمال حلب المدعومة تركيًا. هكذا تم تجنب مواجهات انتقامية مع «قوات سوريا الديموقراطية» (الكردية) المدعومة أمريكيًا. كما تم إطلاق حملة الجنوب نحو دمشق كى لا يظهر أن الفصائل «المتطرفة» هى التى دخلت دمشق أولا.
بالمقابل، على الرغم من بعض الدعم الجوى الخجول للطيران الروسى، بدا من منشورات بعض الأوساط المقربة من الكرملين أن روسيا تعاونت بشكل كبير كى يحصل تغيير السلطة بشكل آمن، من خلال نفوذها فى قيادات الجيش السورى. وحتى إيران، التى تخسر اليوم نفوذها الكبير فى سوريا، تصرفت بواقعية تجاه الأمر وسحبت قواتها وانكفأت.
من ناحية أخرى، كان لتوازن تصريحات قادة «المعارضة المسلحة» ولطريقة إدارة حلب بعد «تحريرها» أثر إيجابي فى إزالة المخاوف الشعبية من التغيير وتسارع الأحداث. وقد شكّل ذلك فارقا مع التصرفات التى شهدها الشعب السورى خلال صراعهم الأهلى. لقد تم منع فلتان «الفصائل المسلحة» فى المدينة والحرص على التعاون مع مؤسسات الدولة القائمة كى تعاد الخدمات العامة. هكذا حتى تم الإعلان بعد "تحرير" دمشق أن التغيير سيتم بالتنسيق مع الحكومة السورية القائمة اليوم، دون الأسد ودون أن تدخل قوى عسكرية كبرى إلى المدينة.
• • •
السوريون والسوريات تعمهم اليوم مشاعر ممزوجة بالفرح من زوال الاستبداد والأمل بالنهوض ببلادهم مجددا ولكن أيضا تخوّفا من المستقبل وتحدياته. وكلّها محقّة. إذ لا يُمكِن لأى سورى/سوريّة إلا أن يفرح أن سوريا ليست لأسرة استحوذت على السلطة منذ عقود ولم يمتلِك الذى كان قائما عليها حتى الآن أى قدر من الحكمة لإدارة شعب وبلد وتجنيبه ما عانى منه. كما يمتلئون بالأمل أن الدولة كمؤسسة لم تنهَر، ولم يُعمَل على تفكيكها، كما حصل فى العراق بعد الغزو الأمريكى، كى تتمّ رويدا رويدا إعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى البلاد.
أما المخاوف فترتبط بالحذر من التطورات اللاحقة الداخلية والإقليمية. فبعد فرحة الرحيل، لا بد من إرساء الأمن، كما حصل فى حلب مؤخرا، دون «فصائل مسلحة» بل قوة منضبطة فى «مجلس عسكرى» يمنع التعديات والانتقامات. ورغم التفاؤل من التصرفات الإيجابية والتصريحات الإعلامية لـ«هيئة تحرير الشام»، التى قادت العمليات العسكرية فى الشمال، والإعلان أنها ستحلّ فى وقت، لا يُمكِن بسهولة تجاهل أنها كانت مرتبطة بتنظيمات متطرفة موضوعة على قائمة الإرهاب. هذا عدا الفصائل الأخرى الأقل انضباطا.
من جهة أخرى، خلقت سنوات الصراع مظالم ومطامع بين مختلف فئات المجتمع. ولا بد من إدارة حكيمة لحل الإشكاليات التى أدت إليها، دون أن تؤدى إلى أعمالٍ انتقامية أو من جديد إلى صراعات مسلحة. خاصة أن رحيل السلطة سيؤدى إلى عودة للأشخاص النازحين واللاجئين وإن بشكل تدريجى. وبالطبع هناك حديث عن مسار سياسى تلعب فيه «هيئة التفاوض» دورا رئيسيا. لكنّ لا يُمكن نسيان تدخل الدول الخارجية فى تشكيل هذه الهيئة، وتبقى استقلالية من سيدير هذا المسار السياسى على المحك وكذلك حكمته فى التعامل مع التحديات.
لقد تم فرض التعامل بالليرة التركية أو الدولار فى حلب فى حين كان يُمنع على المواطنين التداول بهما. فانهارت أسعار العملة الوطنية مما زاد من المعاناة المعيشيّة. ولا بد من تصحيح هذا الوضع للعودة إلى العملة الوطنية وترسيخ استقرار نقدى ومالى واقتصادى كى يبدأ التعافى الاقتصادى خاصة، وأنّ عهد انقطاع التواصل بين المناطق السورية يُفترض أنه انتهى. وهذا يعنى أيضا مناطق «الإدارة الذاتية» التى يجب أن تساهم فى إعادة التواصل الاقتصادى وتخصيص الموارد الطبيعية لصالح مجموع الشعب السورى.
على الصعيد الخارجى، لا يُمكن التغاضى عن أن إطلاق العملية العسكرية التى أدّت إلى التغيير جاءت بعد ساعات من وقف إطلاق النار فى لبنان ووضعه تحت وصاية أمريكيّة وتهديد بنيامين نتنياهو للأسد بأنه «يلعب بالنار». كما لا يُمكن التغاضى عن التصريحات الأخيرة لمسئولين إسرائيليين «يكتشفون» فجأة أن «متطرفين» أصبحوا أو تعدوا على خط التماس وأنّهم يجب أن يقيموا منطقة عازلة. هذا عدا عن تلاعبهم كما فى حرب لبنان على المشاعر الطائفيّة والإثنيّة.
كذلك هناك مخاوف من استمرار العقوبات الأمريكية والغربية رغم رحيل الأسد، كما حدث فى العراق بعد الغزو. وسيكون عدم تمرير تمديد "قانون قيصر" الأمريكى قبل نهاية العام ولإلغاء الأوروبيين لعقوباتهم خلال الأيام القادمة أم لا، دلالات كبيرة.
• • •
التحديات القادمة كبيرة. وتجارب الدول العربية الأخرى التى شهدت رحيلا للسلطة فى السنوات الأخيرة تشكل دروسا لتجنب معاودة السقوط أمام الصعوبات القائمة لبلاد لها تنوعها الكبير وتواجه مطامع إقليمية ودولية فى ظل «زمن الذئاب».
الأمل والحذر واجبان. يستحق السوريون والسوريات بعد كل هذه المعاناة أن يعيدوا بناء دولة قادرة تصون جميع مواطناتها ومواطنيها.