ماذا ينتظر البرازيل؟ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا ينتظر البرازيل؟

نشر فى : الإثنين 9 أبريل 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : الإثنين 9 أبريل 2018 - 9:05 م

الانتخابات الرئاسية المرتقبة فى أكتوبر القادم فى دولة البرازيل لن تكون سهلة. المرشح الأوفر حظا وفقا لشعبيته الطاغية كان الرئيس الأسبق المكنى «لولا دا سيلفا» ماسح الأحذية الذى نشأ فى أسرة فقيرة بين ثمانية من الأشقاء، ثم عمل فى صناعة الحديد والصلب، ثم أسس حزب العمال الذى تولى عبره رئاسة الجمهورية، بعد تسع سنوات من المحاولات الفاشلة للوصول إلى قمة السلطة.

«دا سيلفا» الذى حظى بسمعة مميزة فى بلده النامى كنصير للفقراء، بقى رئيسا للجمهورية لفترتين رئاسيتين خلال الفترة من 2003 إلى 2011، ثم غادر السلطة وهو يتمتع برضا وتأييد 80% من الكتلة التصويتية، تاركا بلده المتعثر اقتصاديا قبل توليه الرئاسة محققا معدلا للنمو وصل إلى 10%، وممهدا الطريق لبقاء حزبه فى السلطة بعد أن عمل على أن تكون خلافته فى يد إحدى عضوات حزبه «ديلما روسيف»، والتى خلعها البرلمان بعد ذلك فى عام 2016 على خلفية تظاهرات شعبية كبيرة واتهامها فى قضية فساد.

على الرغم من اتجاهاته اليسارية ونزعته الاشتراكية الواضحة، تمكن «دا سيلفا» من تهدئة مخاوف معارضيه من أنصار الاقتصاد الحر، وحرص منذ توليه الحكم على تولية التكنوقراط الأكفاء المناصب الاقتصادية المهمة بصرف النظر عن انتمائهم للمنهج الاشتراكى من عدمه، فأمكنه توفير مناخ أعمال صديق للمستثمر، فى الوقت الذى حرص فيه على زيادة الإنفاق المحقق لقدر أكبر من العدالة الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

الرئيس البرازيلى الأسبق الذى يراه البعض أحد أهم الزعامات التاريخية فى أمريكا اللاتينية فى العصر الحديث، تعرض لفضائح كثيرة وشبهات خاصة بتضخم ثروته أثناء الحكم، وكانت أشهر فضائحه ما عرف بقضية «غسيل السيارات» التى حكم عليه فيها بقضاء اثنى عشر عاما فى السجن لتلقيه رشوة من إحدى شركات المقاولات. وإذ كان الحكم قد صدر فى يوليو الماضى فإن إجراءات المحاكمة ظلت مستمرة، ومحاولات «دا سيلفا» بمد أجل التنفيذ لما بعد خوضه انتخابات أكتوبر الرئاسية باءت أخيرا بالفشل، عندما تحدد يوم الجمعة الماضى موعدا نهائيا لتسليم نفسه للسجن لبدء قضاء العقوبة، لكنه لم يمتثل!

قضايا الفساد التى وجهت للرئيس الأسبق يراها البعض أنها مسيسة يراد بها القضاء عليه وعلى حزبه نهائيا، وكذلك يزعم «دا سيلفا» نفسه وأنصاره. لكن المؤكد أن عددا كبيرا من فقراء البرازيل ومتوسطى الدخل لا يعيرون تلك التهم أى اهتمام حتى وإن كانت صحيحة! يقولون: على الأقل إنه كان يعطى الفقراء، فتحول الرجل من رئيس وزعيم إلى «روبن هود» السارق الأسطورى الذى ينزع المال من الأغنياء ليطعم الفقراء ويكفيهم.
***

السياق التاريخى الذى يحيط بالتجربة البرازيلية الحديثة، وبالنشأة الفقيرة لرئيسها الأسبق «لولا دا سيلفا» هى التى تلقى بظلال كثيفة على المشهد كله، وتنذر بانتخابات رئاسية غاية فى الصعوبة تلك التى يرتقبها الشعب البرازيلى ومن ورائه العالم كله فى أكتوبر 2018. فالرجل الفقير الذى تحول إلى بطل شعبى استطاع أن يحقق طفرة اقتصادية لا يمكن إنكارها، حتى أكثر المغالين تهوينا من شأن الرجل، لا يستطيع أن يعزى المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التى تحققت تحت رئاسته «الممتدة» إلى سبب آخر بخلاف أسلوب إدارته ونجاحه فى قيادة البلاد.

أكثر الدوريات الرأسمالية انحيازا ضد الفكر الاشتراكى أفردت لـ«دا سيلفا» مساحات كبيرة من الإشادة والتقدير، خاصة وقد أمكنه أن يتبع منهجا براجماتيا يقدم مصلحة البرازيل على الشعارات التى ظن البعض أنها أداته الوحيدة للوصول إلى الحكم، وهو العامل البسيط الذى لم يكمل تعليمه حتى يستطيع أن يساعد أسرته الفقيرة على الإنفاق.

المؤكد أن شبكة الحماية الاجتماعية التى أقامها «دا سيلفا» والتى استلهمها واضعو الموازنات العامة فى الدول النامية أخيرا ومن بينهم واضعو الموازنات العامة فى مصر، قد نجحت فى إنشاء طبقة جديدة فى البرازيل قوامها ما يقرب من 37 مليونا من البشر، أطلق عليها الطبقة جC Class وهى طبقة متوسطة دنيا جديدة ساعد إنفاقها المتزايد نتيجة لزيادة دخولها فى إنعاش الاقتصاد البرازيلى بشكل كبير.

اهتم «دا سيلفا» بالتعليم وأنشأ فى العام 2005 برنامجا أطلق عليه الجامعات للجميع، وكان هدف البرنامج إتاحة الفرصة أمام طلاب المدارس العامة من محدودى الدخل للحصول على منح دراسية فى الجامعات الخاصة، كذلك أسس جامعات فيدرالية جديدة وسهل من إجراءات الالتحاق بها. فى عهده أيضا استفاد عشرات الملايين من البرازيليين من برنامج تحويلات نقدية عرف باسم bolsa família أو منحة العائلة، التى تمكنوا بفضلها من إلحاق أبنائهم بالمدارس، وحصولهم على الرعاية الصحية اللازمة. هناك أيضا برنامج «منزلى..حياتى» الذى قدم شققا رخيصة لمحدودى الدخل بتسهيلات مالية كبيرة استفاد منها نحو 13 مليون فرد برازيلى.
***

فى المقابل يرى البعض أن الإصلاحات التى قدمها «لولا دا سيلفا» لم تكن كاملة ولذا فهى لم تصمد طويلا بعد رحيله عن السلطة. بينما استطاعت البرازيل من ركوب موجة ارتفاع أسعار السلع عالميا، فهى لم تتبنَّ برنامجا للإصلاح الهيكلى الذى يمكنه أن يطيل فترة الإثمار الاقتصادى. صحيح أن فترة «لولا» قد شهدت ارتفاع متوسط العمر المتوقع عند الولادة بمعدل ستة أعوام خلال الفترة من العام 2000 إلى عام 2016، لكن نظاما جيدا للمعاشات لم يتم تقديمه طوال فترة حكمه الممتدة 8 سنوات كاملة! تحسن التعليم لكن إنتاجية العامل فشلت فى اللحاق بهذا التحسن. الكساد الكبير الذى انزلقت إليه البرازيل فى عام 2014 أضاع عليها الكثير من المكاسب التى تحققت فى عهد «لولا دا سيلفا» مما يشكك فى متانة الأساس الإصلاحى لفترتى حكمه.

لا يمكنك أن تقنع المواطن البسيط بتلك الحقائق والتراكيب الاقتصادية التى تحلل نجاحات رئيس جمهورية وإخفاقاته على نحو موضوعى، فهم يرونه قد انتشلهم من الفقر ورفع من مستوياتهم المعيشية والتعليمية والاجتماعية والصحية، واصطحبهم خلال الأزمة المالية العالمية فى سنة 2008 وما بعدها بأقل خسائر، ودون أن يفقد البرازيليون وظائفهم أو تنخفض أجورهم... وهذا يكفى كمسوغ لاختياره رئيسا لفترة جديدة أو فترتين حتى وإن كان مدانا بالرشوة أو متلبسا بها!
***

الجمهور له مقاييس فريدة فى الحكم على زعمائه، فهو يغفر الكثير من الجرائم لقائده، إذا استقر فى ضميره أن هذا القائد قد انشغل صادقا بتحسين أوضاعه والشعور بأوجاعه وآلامه. التاريخ يمتلئ بنماذج من الفقراء الذين تولوا المناصب ولم يفعلوا شيئا يذكر للطبقات الاجتماعية التى خرجوا منها إما فشلا وإما جحودا. لكن الرئيس البرازيلى الأسبق «لولا دا سيلفا» عائذ اليوم بشعبه الذى قدم إليه الكثير، وينتظر أن يرد إليه الشعب بعضا مما قدمه له ولو فى صورة مساعدته على خرق القانون وعدم الامتثال لحكم المحكمة! فى هذا خطورة كبيرة أترك التوسع فى تحليلها لأساتذتنا فى العلوم السياسية، لكن غير المتخصص فى هذا النوع من التحليل، لا يمكنه أن يغفل الخطر الأخلاقى moral hazard الذى ينطوى عليه هذا الاستثناء، والذى يعنى بكل وضوح أن الحسنة فى الحكم تمحو السيئات، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن مصلحة البلد يقدرها رئيسه المعصوم من المساءلة تماما كما ظن «نيكسون» من قبل.

أتمنى أن تمر البرازيل من تلك المحنة بتغليب الحكمة، وإنفاذ القانون، وعدم تسييس العدالة، وسيادة الديمقراطية. أتمنى أن تنعم البرازيل بانتخابات رئاسية موفقة هادئة، وأتمنى أن تنجح تجربة «دا سيلفا» فى الحكم والإدارة والصعود الهادئ إلى الحكم بقوة الشعب، وليس تجربته المحسوبة على أيديولوجية بعينها، والتى نجح خلال فترة حكمه ألا يفرضها على الناس.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات