أيا كانت الأسباب الموضوعية وراء النتيجة التى أسفر عنها استفتاء اليونان، يبقى سرا معلنا أن الشعب اليونانى كان على امتداد الأزمة يتحدى ألمانيا. شعب فقير يرفض ابتزاز الأغنياء ويحاول استرداد كرامته. ففى يوم الاستفتاء جرى تشبيه موقف حكومة اليونان من عجرفة الدائنين ومن الحلول المطروحة من جانبهم لأزمة الديون ومن الشروط المهينة المقترحة لإصلاح بعض مواقع الخلل فى الاقتصاد اليونانى بالوضع خلال الحرب العالمية الثانية عندما نشبت مقاومة شرسة ضد القوات الألمانية سجلت وقائعها وثائق جيوش الحلفاء التى كانت تستعد لتحرير أوروبا. فى ذلك اليوم ومنذ الصباح الباكر عمت البلاد مظاهر عدم الرضا، ولا أقول الكره أو العداء، لألمانيا والشركات الألمانية الكبرى والمؤسسات المالية الأوروبية الخاضعة للنفوذ الألمانى. فى الوقت نفسه كان المزاج الشعبى، كما ظهر من تقارير المراسلين ومقالات المعلقين، يعكس تفاؤلا وأملا فالتغيير قادم والفرصة متاحة لبناء اقتصاد أقوى بإرادة مستقلة.
تلك كانت الصورة فى اليونان صباح يوم الاستفتاء بينما كانت التصريحات الصادرة من ألمانيا ومن موظفين كبار فى فرنسا والمفوضية الأوروبية تعبر عن نفاذ صبر المسئولين عن سلامة اليورو واستقرار الأوضاع الاقتصادية الأوروبية. كانت التصريحات تجاهر بالغضب، وبعضها بعث رسالة تحمل النية فى الانتقام لو لم يصوت الشعب اليونانى لصالح العرض الأوروبى.
•••
جاء وقت خلال الأيام السابقة مباشرة على عقد الاستفتاء حين ظن الأوروبيون أن النتيجة ستكون فى صالحهم لو أنهم ضاعفوا الجهد الإعلامى الخارق الذى بذلته المؤسسات الإعلامية الأوروبية لحث اليونانيين على التصويت بنعم. وبالفعل ضاعفوا الجهد وأضافوا إليه ضغوطا من أنواع شتى وصلت إلى حد التركيز على احتمالات طرد اليونان من منطقة اليورو كخطوة نحو فرض العزلة عليها. قاموا أيضا بحشد طاقة المصارف اليونانية والأوروبية جميعا للضغط على الشعب اليونانى فى إدارة حياته اليومية. توقفت السياحة وضرب الشلل معظم الأسواق. وفى حمأة الغضب العارم وقع المسئولون الأوروبيون فى الخطأ المعهود الذى يقع فيه عادة المتغطرسون من الحكام والنخب السياسية. اعتمدوا على كراريسهم المدرسية وتجاربهم فى حكم الدول الأضعف والأفقر، فتجاهلوا حقيقة انه حين تتساوى تضحيات المستقبل، فإن الشعوب غالبا ما تتبنى البديل الذى يضمن لها على الأقل احتفاظها بكرامتها الوطنية.
•••
لا أعرف بالدقة اللازمة إن كان بعض أصدقائنا فى اليونان تداركوا حقيقة أو مصادفة أن تكون حرب التجويع المفروضة على شعبهم على امتداد السنوات الأربع الماضية، هى صيغة أخرى من صيغ حرب فرضت فى الفترة نفسها ضد خمسة شعوب عربية اختارت ذات يوم من أيام الربيع أن تثور لاستعادة كرامتها. هذه الحرب ما تزال مستمرة، وهى فى حالتنا المصرية اخذت شكل ترهيب الشعب باستخدام اساليب قمع داخلية وإثارة فزع وعدم استقرار باستخدام قوى إرهابية متوحشة مدربة وممولة من الخارج والداخل على حد سواء. كان الهدف فى الحالين، وقف تمدد الحالة الثورية، هناك فى أوروبا خافوا على مؤسساتهم المالية وعلى امتداد العدوى من إسبانيا واليونان إلى البرتغال وأيرلنده وإيطاليا، وهنا خافوا على مواقعهم الاحتكارية ومصادر قوتهم المادية فى الخليج. لم يتوقف الناس فى اليونان عن طلب استعادة كرامتهم من بين انياب المصارف والنخب السياسية والمالية الحاكمة فى برلين وباريس ولندن وواشنطن. وهنا فى بلادنا العربية، مازالت الحرب فى بدايتها، وما تزال الشعوب فى غالبيتها، كغالبية الشعب اليونانى، متمسكة بمطالبها التى أعلنتها عندما ثارت فى ربيع 2011 .
•••
كانت ثورات الربيع العربى مثيرة ومبدعة ولافتة لنظر المفكرين من جميع الاتجاهات الأكاديمية والايديولوجية، هكذا أيضا كانت الثورة اليونانية التى نشبت ضد إجراءات التهذيب والتجويع. لم يحدث منذ زمن طويل حسب ما أذكر أن اجتمع هذا العدد من الفلاسفة، وهذا العدد من عباقرة الرأسمالية والاشتراكية ودعاة الديمقراطية، ليقولوا بصوت عال أنهم يرفضون أساليب التعامل مع اليونان التى استخدمتها النخب السياسية الحاكمة فى دول أوروبا الغربية، وهى النخب الخاضعة للنخبة الحاكمة الألمانية، والداعمة أو المسايرة لمنطق الليبرالية الجديدة فى أبشع تجلياتها، لم أتصور أن يوما سيأتى يجتمع فيه كروجمان وستيجلتز وبيكيتى وامارتيا سين وتشومسكى وعشرات آخرون فى جميع أنحاء العالم الغربى على موقف واحد، وبهذه الحدة والصلابة. بدوا وكأنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة منذ سنوات، وبالتحديد منذ وقوع الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٧ ــ ٢٠٠٨.
•••
جاءت نتيجة الاستفتاء لتشكك فى صحة مقولة انتشرت فى الأسابيع الأخيرة ونقلتها تعليقات صحفية فى دول عربية عديدة، إذ اجتهد بعض المفكرين فى تفسير صعود الحركات الإسلامية وإقبال أعداد متزايدة من الشبان على الانضمام إليها، فقالوا إن هذا الصعود إنما هو إيذان بنهاية عصر الثورات الاجتماعية والسياسية. يعتقد هؤلاء أن ثورات عقدى السبعينيات والثمانينيات فى أمريكا اللاتينية كانت آخر الثورات الاجتماعية والسياسية. وأن ثورات الربيع العربى، لم تكن أكثر من «هبات» احتجاج سارعت إلى اختطافها القوى الدينية. وكان يمكن لو لم تتدخل دول وقوى أجنبية لدعم القوى الدينية أن يتحول ما سموه «هبات الاحتجاج السياسى» إلى ثورات اجتماعية تسقط النخب العربية الحاكمة فتهدد مصالح الغرب فى الشرق الأوسط. الأخطر على المصالح الغربية ثورة اجتماعية تفتح الباب أمام صراعات ايديولوجية وسياسية وتطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية واحترام سيادة الشعوب وحقها فى التحرر من سيطرة ونفوذ مصالح مالية واحتكارية كبيرة. يتصور هؤلاء أن صعود التيارات الدينية، وبخاصة المتطرفة، ومعه صعود صراعات بين هذه التيارات ومؤسسات الحكم فى البلاد العربية، سوف يؤجل، إن لم يمنع، انفجارات ثورية بسبب الجوع والفقر والانتقاص من الكرامة وتفاقم اللامساواة والظلم والاستبداد السياسى.
•••
يطول الحديث عن تداعيات الوضع فى اليونان وآثاره على الاحوال فى الاتحاد الأوروبى وأوروبا عموما. اليونان دولة فقيرة بحسابات ومعايير الاتحاد الأوروبى، وهى أيضا دولة من دول البلقان. أظن أن لا أحد بين قادة أوروبا يحتاج إلى من يذكره بدور البلقان فى صياغة أكثر من حقبة من حقب التاريخ الأوروبى، أو يذكره بأزمة البلقان الأخيرة وحروبها الأهلية التى بدت ظاهرا وكأنها انتهت، بينما يعلم حكام أوروبا أن تحت الرماد نارا لم تهدأ. يعرفون أيضا أن اليونان، إذا استمرت تحت الحصار وبرامج التهذيب والإصلاح قد تختار الانقلاب على الاتحاد الأوروبى وتلجأ إلى روسيا. ويعرفون أنها إذا قاومت وتحملت لمدة مناسبة فقد تجد نفسها وتجدها أوروبا وقد صارت نموذجا تسعى لتقليده تيارات احتجاج فى كل من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، مستجيبة لشعوب ضاقت ذرعا بهيمنة مصارف ألمانيا ونخبتها الحاكمة وتتمنى استعادة إرادتها المستقلة، ومستفيدة من صحوة القومية والقوى اليمينية فى إنجلترا وإيطاليا ودول شرق أوروبا.
اليونان، نقطة أمل تعيد الحيوية إلى أفكار اليسار العالمى، أو على الأقل، تستعجل الخطى لتصحيح مسيرة الرأسمالية.
اقتباس
حين تتساوى تضحيات المستقبل، فإن الشعوب غالبا ما تتبنى البديل الذى يضمن لها على الأقل احتفاظها بكرامتها الوطنية.