ليس جديدًا هذا الدعم الرسمى والمؤسسى الغربى لإسرائيل فى حربها الدموية الوحشية التى بدأت بشنها منذ الثامن من أكتوبر 2023 على مدينة غزة.. فالغرب فى عقليته السياسية وحتى الثقافية، ما زال يختزن (فى عُمق تفكيره ووعيه العملى لعالم العرب والمُسلمين بالذات) النظرة الاستعلائية الفوقية، فى كل ما يتعلق بقضايا هذا العالم وسياساته، على الرغم من أقنعة الانفتاح والمبادئ والقيم الإنسانية التى يرتديها فى بعض الأحيان والتى سرعان ما ينكشف زيفها لِتسقط عند أول امتحان عملى.
وحتى فى كتابات وأدبيات كثيرين من مستشرقى هذا الغرب نقرأ إصرارهم على وصم عالمنا العربى بالتخلف البنيوى والعقم الحضارى، وفى الوقت نفسه ينسبون كل نتاجات الحضارة الغربية للحضارة اليونانية فقط أو ما يُسمى بالمعجزة اليونانية أو الإغريقية، على الرغم من خطورة هذا الزعم التاريخى الزائف والمضلل، لجهة تحوله إلى هوية مفاهيمية قارة لدى الغرب بعقله السياسى والثقافى، ثبتت فى الذهنية العامة خصائص ومميزات عرقية وحضارية خاصة بالهوية الغربية جاعلة منها ثقافة متعالية؛ ثقافة متمحورة حول نفسها، قوامها النظر إلى الآخر نظرةً دونيّة منذ أيام الفلسفة الإغريقية إلى الآن. وبالتالى مهدت الطريق لولادة عصر الاستعمار الغربى الحديث بأشكاله وألوانه كافة. فاتجه لاحتلال دول ونهب مقدرات شعوب واستغلال مواردها، وتحويلها إلى أسواق ضخمة بهدف استهلاك منتجاتها وابتلاع سلعها، ولاحقا التحكم بوجودها ومستقبلها ومنع تطورها وازدهارها.
وإذا عدنا إلى اليونانيين أنفسهم، فإننا نجد لديهم ــ فى بعض متونهم وشروحاتهم الفكرية والمفاهيمية الأساسية المهمة التى وصلتنا ــ اعترافات واضحة بأسبقية حضارات الشرق القديم وأهمية إنجازاتهم الحضارية المادية والمعنوية فى شتى أشكال الصنائع والاختراعات والآداب والفنون.
وفى الواقع إن التأكيد على المنابع الشرقية للحضارة اليونانية القديمة لا يُعد بحال من الأحوال تقليلا أو تصغيرا من قيمة هذه الحضارة ودورها فى بناء هيكل الحضارة الإنسانية ككل. كما أننا لا نُقلل ولا ننتقص من قيمة حضاراتنا الشرقية عندما نعترف بتأثرها وتفاعلها الخصب مع بقية حضارات الأمم الأخرى شرقا وغربا على السواء، وفى مقدمتها الحضارة اليونانية القديمة، التى غدا علماؤها وفلاسفتها أكثر شهرة فى العالم العربى والإسلامى، مما كانوا عليه حتى فى الغرب الأوروبى والعالم البيزنطى فى العصور الوسطى. وإذا ما كان الوفاء واحترام الآخر والاعتراف بالجميل قيما إنسانية رفيعة فى العلاقات الاجتماعية، فإنها تشكل شرطا أساسيا لقيام حوار جاد بين الحضارات.
• • •
واليوم، يمكننا أن نعثر فى الغرب على بعض الباحثين والمفكرين الرافضين لمقولة المعجزة اليونانية (وأسبقية العقل اليونانى)، بل يُمكن القول بوجود تيار فكرى قوى يمضى اليوم فى اتجاه إعادة النظر فى ما يسمى بـ (المعجزة اليونانية). وهناك محاولات مهمة لكشف الحقيقة، التى تتصف بالطابع العلمى فى تفنيد نظرية المعجزة اليونانية وإثبات المصدر المصرى بخاصة، والشرقى بعامة. ويتمثل هذا الرأى بما كتبه المؤرخ الفرنسى «ألبار يوفتن»، والفيلسوف «ألبار بونان»، والطبيب «جون برنارد بولاى»، والعلامة «ماير» و«دنكر» و«روبرتسون» وغيرهم من المهتمين بالموضوع. فقد رأى «ماير» مثلا أن المدنية اليونانية لم تبدأ فى الرقى الحقيقى إلا بعد أن احتكت بالشرق فى «أيوليا» و«أيونيا» فى آسيا الصغرى، بينما ذهب «دنكر» إلى الرأى نفسه حين قرر أنه لم يبق من شىء فى مدنية اليونان لم يلحق به تأثير الشرق فى آسيا الصغرى، ولا يُستثنى من ذلك الدين اليونانى الذى اقتبس كثيرا من المعتقدات والأفكار الشرقية. أما «روبرتسون» فيقول فى كتابه «تاريخ حرية الفكر»: «إننا مهما قلبنا وجوه الرأى وأمعنا فى البحث، لن نعثر على مدنية يونانية أصيلة بريئة من التأثر بالحضارات الشرقية، غير أن الإعجاب الشديد باليونانيين هو الذى جعل جمهرة من أصحاب الرأى تصر على إنكار تأثر حضارة اليونان بحضارات الشرق».
• • •
لكن ما يحز فى النفس للأسف، أنه، وعلى الرغم من كل نتاجات العقل الإنسانى، وتوفر إمكانات هائلة للنفاذ إلى حقائق التاريخ والجغرافيا، وعلى الرغم من كل تلك الاعترافات لكبار شخصيات الغرب بأهمية الحضارات الشرقية ومدى تأثيرها على الحضارات الأخرى بما فيها حضارة اليونان، ما زال العقل الغربى مرتهنا لأسطورة التكوين والبدايات بشكل بنيوى خلاصى عميق. فالغرب فى بنيته العقلية ما زال هو الغرب المجبول بفكرة المعجزة وهو العقل الناتج عن معجزة عقلية وفلسفية عملية لليونان القديم، ولفكرة الإنسانية التى ظهرت فى الحضارة الرومانية، ولأخلاقيات الكتاب المقدس والتجديد البابوى فى القرنين الحادى عشر والثالث عشر.. وهذا الكلام نلمسه فى كثير من الدراسات الفكرية لبعض أقلام الغرب المهمة التى ما زالت تكرس فى ذهنية الناس تلك الأفكار النمطية لنقاء الغرب وأصالة حضارته وعدم اقترانها بأية مؤثرات أجنبية.
وللأسف فقد نجحت تلك الأقلام فى تكريس نمط واحد أو قراءة واحدة لحركة التاريخ بأحداثه ووقائعه وبمختلف تحولاته وفاعلية الإنسان فى مجرياته. وهى القراءة السائدة اليوم، والتى نراها محكومة فى أغلب جوانبها بخلفية استكبارية ودوافع سياسية استعمارية عنصرية، يمكن أن نعتبرها اليوم امتدادا لحركة الاستشراق الغربى لعوالم الشرق بهدف استغلاله ونهبه والتحكم بموارده وعيشه.
نعم، إن الحضارات البشرية التى ظهرت وعاشت فى التاريخ، وإلى يومنا هذا، لم تتفرد أمة أو جماعة بشرية واحدة فى صنعها وبنائها وتفجير طاقات أفرادها، بل كانت بمجملها حضارات متراكمة الخبرات والتجارب أسهم فيها الجميع (من دون استثناء لأمة أو لجماعة)، بما فيهم الحضارة العربية والإسلامية، (بكل ما فيها من مكونات ورؤى ونتاجات عقلية وعاطفية) التى احتوت وهضمت وأعادت إنتاج الكثير من ذلك التراث اليونانى والرومانى.. الأمر الذى يجعلنا نقول إن العرب والمسلمين لم يكونوا مجرد وسطاء أو ناقلين لحضارات الآخرين (فى الغرب أم فى الشرق على السواء) بأفكارها ومعارفها ونتاجاتها، بل هم كانوا فاعلين ومؤثرين فيها من خلال ما قدموه من عطاءات جديدة وأيضا عبر ما أعادوا قولبته وصياغته وهضمه من أفكار ومعارف ونتاجات الشعوب والأمم الأخرى.. وبما يدفعنا إلى القول إننا أمام تاريخ حضارى إنسانى وكونى شامل يجسد ــ فى وعينا له ــ إسهامات كل الشعوب البشرية وتراثاتها، ثقافيا وعلميا.
نبيل على صالح
مؤسسة الفكر العربى