زمن ما بعد الذكاء الاصطناعى.. رأسمالى أم شيوعى؟ - قضايا تكنولوجية - بوابة الشروق
الجمعة 31 أكتوبر 2025 1:41 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

زمن ما بعد الذكاء الاصطناعى.. رأسمالى أم شيوعى؟

نشر فى : الخميس 30 أكتوبر 2025 - 7:00 م | آخر تحديث : الخميس 30 أكتوبر 2025 - 7:00 م

نشر موقع 180 مقالًا للكاتب عبدالحليم حمود، تناول فيه التحول العميق الذى يفرضه «عصر الذكاء الاصطناعى» على البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمع البشرى، متجاوزًا كونه مجرد تطور تقنى ليصبح «تحولًا فى معنى الوجود الجمعى» وطبيعة «التضامن». هذا التحول جعل الكاتب يتساءل إذا كان العالم يقترب من المضمون الرأسمالى أم يتجه نحو شيوعية من نوع جديد؟.. نعرض من المقال ما يلى:
تتشكل أمامنا حقبة جديدة تتجاوز حدود الاقتصاد والسياسة لتطال النسيج العميق الذى كان إميل دوركايم يسميه الوقائع الاجتماعية. ما يحدث فى زمن الذكاء الاصطناعى ليس تطورًا تقنيًا فحسب، بل تحوّل فى معنى الوجود الجمعى، فى طبيعة التضامن، وفى بنية الوعى الجمعى ذاته. العالم يدخل طورًا من التنظيم الذكى، حيث تتبدل القواعد التى تضبط العلاقة بين الإنسان والمجتمع، بين الفرد والجماعة، بين السلطة والخيال.
فى هذا الأفق الجديد يصبح السؤال الجوهرى: أى نوع من التضامن سيحكم العالم المقبل؟ تتحرك السياسة العالمية نحو فضاء جديد، حيث الخوارزميات تسهم فى إدارة الحملات الانتخابية، وفى صياغة الخطاب، وفى تحديد مزاج الجماهير. الدولة الحديثة تتراجع بوصفها جهازًا يهيمن بالقانون لتغدو مركزًا لتشغيل الذكاء الاصطناعى فى مراقبة المجتمع وتوجيهه. تتبدل الهويات الجماعية مع كل تفاعل تكنولوجى، فالجماعات الإثنية والثقافات المحلية تستعمل الذكاء الاصطناعى لتأكيد ذاتها؛ لإعادة كتابة سرديتها؛ لخلق حضور رقمى يمتدّ إلى ما وراء الجغرافيا. الذكاء الاصطناعى لا يمحو الهويات، بل يدفعها نحو أشكال جديدة من التنظيم العضوى، هوية هجينة تجمع بين الأصل والعصر، بين الأرض والبيانات، بين الحقيقة والخيال. يُولّد ذلك أنماط انتماء جديدة تستند إلى المشاركة الرقمية، وتحولًا فى السلطة من يد النخب السياسية إلى يد المنصّات الخوارزمية، وانتقالًا فى طبيعة التضامن من رابطة القرابة أو المصلحة إلى رابطة الذكاء المشترك.
كل ثورة تقنية تُعيد تشكيل تقسيم العمل، لكن الذكاء الاصطناعى يفعل أكثر من ذلك، إذ يعيد تعريف معنى العمل ذاته. تتغير بنية الإنتاج، ويظهر اقتصاد المعرفة كفضاء يربط بين البيانات والخيال، بين البرمجة والعاطفة، بين الإنسان والآلة. تُستبدل المهن التقليدية بوظائف ذكية، ويُعاد توزيع السلطة داخل المجتمع تبعًا لمن يمتلك أدوات الذكاء لا من يمتلك رأس المال فقط. فى هذا الإطار الجديد تصبح العدالة الاجتماعية مرتبطة بتوزيع المعرفة، ويغدو التخصص الذكى هو الأساس فى بناء التضامن العضوى الجديد. ينشأ من ذلك اقتصاد متشابك يقوم على تداخل الإنسان والآلة فى الإنتاج، وإعادة تعريف القيمة بناءً على القدرة التحليلية لا اليد العاملة، وبروز طبقة جديدة من الوسطاء الخوارزميين الذين يديرون العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع.
الثقافة تدخل مرحلة التحول البنيوى الذكى، حيث تتبدل الرموز والمعانى وطرق التفاعل. اللغة نفسها تتغير حين تكتبها الخوارزميات وتفسرها الآلات، والفن يصبح مجالًا للذكاء الجمعى. الطقوس القديمة تُعاد صياغتها فى فضاءات رقمية، والذاكرة الجمعية تنتقل إلى الحوسبة السحابية، فيتحول التاريخ إلى بيانات قابلة للاستدعاء الفورى. يتبدل الزمن الثقافى فيتسارع الإيقاع، وتُختصر المسافة بين الماضى والمستقبل.
الإنسان يجد نفسه فى زمن لا يُقاس بالساعات بل بالمعالجة الرقمية. فى هذه المرحلة يصبح الضمير الجمعى شبكة متصلة تتجاوز الحدود، ويغدو الذكاء الاصطناعى شريكًا فى إنتاج المعنى لا مجرد أداة لتسهيله. التكنولوجيا تغدو الشكل الجديد للتنظيم الاجتماعى، فهى التى توزّع المعرفة وتعيد تعريف السيطرة. الذكاء الاصطناعى يعمل كقوة تدويل وتفكيك وتجميع فى آن واحد، يوحّد البشر عبر المنصات، ويخلق تضامنًا كوكبيًا يتجاوز القوميات، ويزعزع المراكز القديمة ليمنح الأفراد سلطة جديدة عبر البيانات، ويعيد تركيب المجتمعات المحلية لتصبح شبكات معرفية متفاعلة. هذا التحول يفرض على المجتمعات إعادة بناء أخلاقها، لأن القواعد القديمة لم تعد تواكب إيقاع الذكاء.
يظهر شكل جديد من اللا معيارية، حيث تتقدّم التكنولوجيا على القانون والعرف، ويصبح المجتمع محتاجًا إلى منظومة قيم قادرة على ضبط الإيقاع الخارق للتطور.
الزمن القادم يحمل ملامح خمسة تحولات كبرى: تضامن عبر التخصص الذكى حيث يُدار العالم عبر ترابط الوظائف بين الإنسان والآلة؛ هويات رقمية متعددة الطبقات، حيث تعيد الجماعات إنتاج ذاتها داخل الفضاء الرقمى، اقتصاد معرفة وعدالة ذكية تقوم على المساواة فى الوصول إلى أدوات الذكاء، إعادة صياغة الزمن الاجتماعى عبر طقوس رقمية تُعيد بناء الإحساس بالاستمرارية والانتماء؛ ونظام عالمى متعدد الأقطاب الذكية يجمع بين الدول والشركات والمختبرات والثقافات الرقمية.
ثورة الذكاء الاصطناعى ليست مسألة أدوات بل مسألة وعى جمعى يُعاد بناؤه. هى دعوة لإعادة تعريف التضامن والحرية والمسئولية فى ضوء تكنولوجى شامل. المستقبل ينتمى للمجتمعات التى تدرك أنّ الإنسان يتطور مع آلته ويتجاوزها بوعيه. هكذا يتكوّن العقد الاجتماعى الذكى الذى يجمع بين الإبداع الإنسانى والعقل الخوارزمى فى توازن يضمن استمرار الحياة كقيمة، لا كمعادلة.
هل هذه الوقائع الاجتماعية والاقتصادية تُقرّبنا أكثر من المضمون الرأسمالى بمسمياته الجديدة أم تأخذنا إلى شيوعية من نوع جديد؟

النص الأصلى

 

قضايا تكنولوجية قضايا تكنولوجية
التعليقات