جاءت عملية إغراق المدمرة «إيلات» لتُحدث تغييرًا جذريًا فى الفكر الاستراتيجى البحرى العالمى، وصارت شهادة مجيدة تُدرس درسًا فى الأكاديميات العسكرية فى العالم.
فى مساء يوم الجمعة، 20 أكتوبر 1967، اكتشف رادار لنش السواحل «نسر» هدفًا فى اتجاه 51 درجة على مسافة 17 ميلًا بحريًا من فنار بورسعيد، وفى الساعة 5:30 من صباح اليوم التالى تم رصد الهدف من جديد بوضوح بواسطة أجهزة رادار قاعدة بورسعيد البحرية على اتجاه 95 درجة، والمسافة 13 ميلا بحريا. كما رصدت نقطة المراقبة البصرية أعلى فنار بورسعيد الهدف، وسجلته إحدى السفن التجارية المصرية، والتى كان يقودها آنذاك الربان/ أمون واصف. وعليه فقد تم رفع درجة الاستعداد فى القاعدة، وعندما أشارت عقارب الساعة إلى السابعة وعشر دقائق صباحًا، تم إبلاغ مركز العمليات البحرى بقيادة القوات البحرية بالإسكندرية بالموقف، وعلى الفور أصدر قائد القوات البحرية تعليماته بإخطار هيئة العمليات بالقيادة العامة للقوات المسلحة.
آنذاك، فى القاعدة ببورسعيد، كان قد تم رفع درجة استعداد سرب لنشات الصواريخ المكوَّن من لنشين طراز «كومار» السوفيتى الصنع، حمولة 85 طنًا، طول 27 مترًا، عرض 6 أمتار، غاطس 1.5 متر، السرعة 40 عقدة، مدى الإبحار 400 ميل بحرى، واللنش مجهز بصاروخين موجّهين طراز «ستايكس»، مدى 34 ميلا بحريًا، سرعة الصاروخ 0.9 ماخ، وزن العبوة المتفجرة نصف طن. وفى الساعة 11:25 صباحا تم رصد الهدف من جديد على مسافة 5 أميال بحرية من نجمة بورسعيد، وبعد 15 دقيقة رُصد الهدف من جديد على اتجاه 40 درجة ومسافة 11 ميلًا بحريًا من فنار بورسعيد. وعليه فقد طلبت قيادة القوات البحرية من القيادة العامة وهيئة عمليات القوات المسلحة التصديق على قرارها بتدمير الهدف البحرى المعادى فور اختراقه المياه الإقليمية. كان القرار خطيرًا وعلى درجة عالية من الحساسية، وله أبعاد سياسية وعسكرية كبرى؛ لذا تم رفع الأمر إلى الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله)، الذى صدّق عليه فورًا فى تمام الساعة 12:20 ظهر ذلك اليوم المشهود.
فى الساعة 1:15 ظهرًا قام مركز العمليات البحرى برأس التين بإرسال إشارة لاسلكية مفتوحة إلى قيادة قاعدة بورسعيد، كان الغرض من الرسالة خداعيًا، حيث كان نصها: «لا تشتبك مع أى أهداف فى نطاق القاعدة». وعلى الجانب الآخر تم إخطار قائد القاعدة البحرية تليفونيًا بحقيقة الأمر عن طريق هيئة العمليات بالقاهرة، وذلك حتى لا يحدث أى التباس فى الموقف.
• • •
توالت الأحداث، إذ تم رصد الهدف من جديد الساعة 4:40 عصرًا حيث اخترق المياه الإقليمية من جديد. على الفور صدرت أوامر القتال إلى سرب لنشات الصواريخ بقاعدة بورسعيد، على أن تتم الضربة الأولى بواسطة لنش الصواريخ رقم 504 بقيادة قائد السرب النقيب أحمد شاكر عبد الواحد القارح، تليها الضربة الثانية بواسطة لنش الصواريخ رقم 501 بقيادة لطفى جاد الله.
 وفى تمام الساعة الخامسة وخمس دقائق عصرًا، أبحر السرب إلى خارج القاعدة للاشتباك مع الهدف المعادى، وفى الخامسة وخمس وعشرين دقيقة تمامًا، وبعد ضبط الهدف على شاشة رادار لنش الصواريخ، تم إطلاق الصاروخ الأول من اللنش 504، حيث أطاح بأجهزة الاتصال وهوائيات اللاسلكى بالمدمرة، مما جعلها عاجزة عن الاستغاثة وطلب النجدة. بعدها بأربع دقائق تم إطلاق الصاروخ الثانى الذى أصاب غرفة الماكينات بالمدمرة إصابة مباشرة.
فى غضون ذلك كانت أجهزة رادار قاعدة بورسعيد قد أُغلقت مؤقتًا بأوامر من قيادة القاعدة بناءً على طلب قائد سرب اللنشات، حتى يتمكن من استخدام راداراته بوضوح دون تداخل أو تشويش. وعليه، فبعد نهاية العملية تمت إعادة تشغيل رادارات القاعدة من جديد الساعة 6:50 مساءً، وفى تلك اللحظة تم رصد الهدف من جديد على اتجاه 83 درجة، ومسافة 11 ميلًا بحريًا، واتضح أنه ساكن فى موقعه دون حراك. على الفور تم إبلاغ مركز العمليات برأس التين، وفى تمام الساعة 7:05 مساءً صدر الأمر إلى لنش الصواريخ رقم 501 بالخروج والاشتباك مع الهدف. وتحقق ذلك بالفعل عندما تم إطلاق الصاروخ الأول فى الساعة 7:29 مساءً، وبعدها بثلاث دقائق تم إطلاق الصاروخ الثانى، حيث انفجر الصاروخ الأول فى الماء أسفل الهدف، بينما حقق الصاروخ الثانى إصابة مباشرة دمّرت الهدف وأحالته إلى كتلة من النيران، وفى الساعة الثامنة كان الهدف قد تلاشى من على شاشة رادار القاعدة، وهوى إلى قاع البحر بغير رجعة.
• • •
قد بدأت إسرائيل على الفور عمليات الإنقاذ فى الساعة 8:15 مساءً، حيث حلّقت أربع طائرات إسرائيلية فوق موقع المعركة، وأخذت تلقى بالمشاعل المضيئة والقوارب المطاطية، لكن وحدات الإنقاذ الإسرائيلية لم تستطع الوصول إلا فى وقت لاحق. وبجرأة ووقاحة اتصل رئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلى بكبير مراقبى الأمم المتحدة فى القدس، وطلب منه التدخل لدى الحكومة المصرية لتسهيل عملية إنقاذ الضباط والجنود البحريين الغرقى والمصابين، الذين تصادف أن يكون من بينهم طلاب دفعة التخرج من الكلية البحرية الإسرائيلية الذين كانوا على ظهر المدمرة المنكوبة. إلى هذا الحد بلغت وقاحة هؤلاء الذين قتلوا أسرانا، وداسوهم بالدبابات، ومثّلوا بهم أبشع تمثيل، دون رادع أو اعتبار لأى قيمة طوال حروبهم العدوانية المجرمة ضد مصر والعرب. وهكذا دفعت إسرائيل ثمن عدوانها غاليًا، وكان للقوات البحرية المصرية شرف هى جديرة به كل الجدارة، وهو أن تكون أول من اقتصّ لمصر وثأر لها من هزيمة يونيو 1967. فكانت عملية إغراق المدمرة «إيلات» بمثابة الخيوط الأولى للفجر بعد ليل دامس حالك، وإرهاصة مبكرة لنصر أكتوبر المجيد.
لقد أصابت تلك العملية إسرائيل فى مقتل، وأنزلتها من زهو كاذب تملّكها بعد يونيو 1967، وأزالت وهمها بأنها استطاعت أن تكسر إرادة مصر الخالدة، فى حين أن الجيش المصرى البطل لم تتح له فى 1967 فرصة حقيقية للقتال، وكانت نتيجة ما حدث فى 1967 هى النتاج الحتمى الذى تُسأل عنه وتتحمله القيادة المتخبطة غير الكفؤ للجيش آنذاك. وبفضل من الله ونصره، لم يمر وقت طويل حتى تثأر مصر وتنتصر لنفسها ولأمتها العربية نصرًا عزيزًا مؤزرًا فى حرب أكتوبر المجيدة.
هنا تغيَّر الفكر الاستراتيجى البحرى، إذ إنه للمرة الأولى فى التاريخ البحرى تتصدى وحدة بحرية صغيرة لقطعة بحرية ضخمة تتمتع بقوة نيران هائلة ومتنوعة. كانت المدمرة «إيلات» طراز (Z) إنجليزية الصنع، حمولتها 2575 طنًا، طولها 111 مترًا، عرضها 11 مترًا، غاطسها 5 أمتار، سرعتها 31 عقدة، مدى الإبحار 2800 ميل بحرى، مزودة بأربع قواعد أعماق، وأربعة مدافع عيار 4.5 بوصة، وستة مدافع عيار 40 مم، وثمانية أنابيب طوربيد، والطاقم 186 ضابطا وجنديا. وبذلك أثبتت تلك المعركة أن قوة النيران والقدرة القتالية لم تعد تتناسب طرديًا مع حجم القطعة البحرية، مما مثل تحولا جوهريا فى الفكر الاستراتيجى البحرى منذ ذلك التاريخ.