القضية المهرجانية العربية بين الجونة وقرطاج مرورًا بالقاهرة ووهران (1-4) - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
الجمعة 31 أكتوبر 2025 11:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

القضية المهرجانية العربية بين الجونة وقرطاج مرورًا بالقاهرة ووهران (1-4)

نشر فى : الخميس 30 أكتوبر 2025 - 6:55 م | آخر تحديث : الخميس 30 أكتوبر 2025 - 6:55 م

قبل أسابيع قليلة، حين وقف المنتج السينمائى المصرى محمد حفظى يشارك فى تكريم مؤسس مهرجان الجونة، فى مدينة لاهاى الهولندية حين اختار هذا المهرجان اللطيف المتواضع (مهرجان هولندا لأفلام الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) الذى يعتبر نافذة تطل منها السينما العربية بقدر من التواضع على الجانب الشمالى من أوروبا، أن يقيم تكريمًا للسينمائى العراقى انتشال التميمى، لم يكن، حفظى مسايرًا أو مغاليًا حين قال بكل بساطة إنه ما كان فى مقدوره قبل سنوات أن يتسلم مقدرات مهرجان القاهرة العريق والكبير، والذى كان وما زال أهم المهرجانات السينمائية العربية الدولية، لولا ما تلمسه منذ الدورات الأولى لمهرجان الجونة ويعود الفضل فى تأسيسه، فنيًا وسينمائيًا على الأقل، للعراقى انتشال التميمى نفسه. وحفظى سبق له أن ذكر هذا الأمر علنًا وفى صحبة مقربين منه مرات عديدة لا سيما حين كان يثنى فى حضوره على إدارته دورات القاهرة القليلة التى تسلم مقدراتها فأعاد إلى هذا المهرجان الكبير وهجه ومكانته فى انتظار الدورات التالية التى أسندت قيادتها إلى الفنان حسين فهمى ما أمعن فى إعادة التظاهرة القاهرية إلى نجاحاتها السابقة التى عرفتها أيام الراحل سعد الدين وهبة ثم تجددت مع الدورة الوحيدة العظيمة التى أدارها الراحل بدوره، سمير فريد قبل أن يغوص المهرجان القاهرى فى تلك البؤرة التى انطفأ فيها قبل أن يعيده محمد حفظى إلى الحياة، وبفضل «ما تعلمه» فى الجونة على أية حال. ونعرف على أن الجونة الذى أغلق أبواب دورته الثامنة قبل أيام قليلة فى مصر على ساحل البحر الأحمر اعتبر، منذ تأسيسه واحدًا من أفضل المناسبات السينمائية العربية والنموذج الذى يحتذى بالنسبة إلى تأسيس أى مهرجان جديد.
الحقيقة أن ما جاء أعلاه وما قد يبدو وكأنه كلمات متقاطعة بالنسبة إلى القارئ الذى قد تكون القضية المهرجانية واحدة من أقل همومه إثارة لاهتمامه، يقع فى قلب قضية السينما العربية. وليس فقط بالنسبة إلى أهل المهنة. وهذه الأيام التى يصل فيها هذا الكلام إلى القارئ تقع بالتالى، فى قلب ما نسميه نحن، أهل المهنة، موسم المهرجانات، موسمًا يتخبط فيه السينمائيون، بين تظاهرات متواضعة، وأخرى أقل تواضعًا، وثالثة لا يتفوق عليها أحد فى فحشها وتأثيرها. من هنا، ومن خلال هذه الفئات الثلاث تدور السجالات من جديد عند كل موسم.. لكنها تتجاوز ذلك لتطاول تضارب المواعيد والصراعات، غير المتكافئة بين أصحاب الأفلام المنتجة حديثا، سواء كانت عربية أو غير عربية من أجل الحصول على «قبول» فى هذا المهرجان أو ذاك. ونقول: «غير متكافئة بالتحديد لأن الأموال التى تنفق فى المهرجانات غير متساوية على الإطلاق». واللافت فى الأمر أن المهرجانات التى تقام فى البلدان الثرية دون أن تكون ذات اهتمام سينمائى حقيقى هى دائمًا الأقدر على اجتذاب أفضل الأفلام، وليس فقط من جراء قدرتها على الدفع مقابل العرض، بل أكثر من هذا، لأن وعودها حتى وإن كانت غير معلنة، كثيرة. وهو أمر اعتدنا عليه منذ فورة بعض المهرجانات الخليجية، وهى مهرجانات ملأت الكون صخبًا وإنفاقًا، خلال العقد الأول من القرن الجديد قبل أن تنطفئ واحدة بعد الأخرى، إذ تبين لها أن ما أنفقته ضاع هباء، لكن دون أن يعرف حتى أصحابها لماذا قامت ولماذا زالت. وحده مهرجان "الدوحة" يحاول فى هذه الأيام بالذات أن يعود، ولكن من المؤكد أن عودته الثانية لن تكون أفضل من بدايته المتعثرة. وذلك لأنه سوف يدرك من جديد أن مهرجانات للسينما فى بلد لا ينتج سينما، أمر مضحك على أقل تعديل.
فى المقابل، نعرف أن مهرجان البحر الأحمر السعودى يقام فى جدة السعودية. والسعودية بلد بدأ ينتج سينما حقيقية وبات، على عكس البلدان الخليجية الأخرى المذكورة، يضم من بين أبنائه، نخبة سينمائية حقيقية، وينفتح على الحركة النقدية ويطبع فى هذا المجال، دراسات غاية فى الأهمية. غير أن المفارقة تكمن فى أن المهرجان الكبير الذى يقام فى جدة ورغم الإنفاق الهائل عليه، لم يتمكن من أن ينطلق بشكل حقيقى حتى اليوم. والدليل أنه يتفرد من بين مهرجانات العالم كافة بكونه غير إدارته خمس مرات فى أربع دورات حتى اليوم. ومن المعروف أن لا أحد يغير فريقًا ناجحًا، ما يعنى أن البحر الأحمر لم يحقق من النجاح حتى الآن على الأقل، ما يوازى النجاح الذى تحققه السينما السعودية فى مجالات غير مهرجانية. فهل معنى هذا أن المهرجان السعودى الآخر المعروف بمهرجان الفيلم السعودى، والذى يقام فى مدينة الخبر، أكثر نجاحًا؟ على الإطلاق، حتى وإن كان لم يبدل إدارته منذ تأسيسه. غير أن مشكلته هى أن المشرفين عليه لا علاقة لهم حقيقية بالسينما، على رغم حبهم للسينما وتوقهم إلى النجاح فى التعبير المهرجانى عنها.
ففى النهاية، الحب وحده لا يكفى. ولا تكفى عشرات الكتب التى تصدرها هذه التظاهرة سنويًا دون أن تكون محل نقاش أو مثمرة للثقافة السينمائية. ومع ذلك، ها هو عالم السينما العربية وغير العربية يتدافع للمشاركة فى هاتين التظاهرتين السعوديتين مفضلًا إياهما على أعرق التظاهرات التى تُقام فى بلدان أقل غنى وأكثر احتفالًا بفن السينما نفسه. وهو أمر تشكو منه تظاهرات سينمائية حقيقية تحاول أن تطل برأسها وسط هذه الوضعية لكن عددًا من أصحابها سرعان ما يجدون أنفسهم غارقين فى رمال المال والأعمال المتحركة.
لتجاوز ذلك الامتحان السنوى، رأت مهرجانات صغيرة تحترم نفسها، كمهرجان مالمو للسينما العربية فى السويد، ومهرجان الفيلم العربى فى الدار البيضاء وغيرهما، تغيير مواعيدها تمامًا، بحيث تحصل على حصتها من الأفلام والاهتمام الإعلامى بل حتى الحضور الحرفى، خارج الموسم، بينما تصر مهرجانات كبيرة أخرى مثل «القاهرة» و«قرطاج» وحتى «الجونة» و«وهران»، و«مراكش» على البقاء داخل الموسم نفسه، عبر مراهنات تخطئ حينًا وتصيب أحيانًا. وهو ما سوف نتوقف عنده فى حلقات تالية، تتناول كل حلقة منها واحدًا أو أكثر من مهرجانات الموسم الحالى بما له وما عليه، ودائمًا من منطلق ينظر إلى القضية برمتها من خلال أبعاد ثلاثة، أولها واقع أن كل هذه المهرجانات، وليس فقط فى مجال استقطابها للأفلام العربية، لكن المميزة فنيًا من غير العربية أيضًا، تدور حول الأفلام نفسها وأحيانًا فى مسايرة غير مفيدة للفن السابع نفسه، لسينمات تتناول قضايا سياسية راهنة وغالبًا من منطلقات ديماغوجية، وهو أمر سنعود إليه بالتأكيد فى الحلقات المقبلة.
وثانى الأبعاد، العلاقة بين المهرجانات والعالم السينمائى العربى، فى تساؤل حول ما الذى تجنيه السينما ويجنيه السينمائيون، من هذه الوفرة والتزاحم المهرجانى فى المدن العربية. أما الثالث وهو الأهم، فى رأينا فيتعلق بما سيبدو وكأنه خسائر جانبية تنتج فى الحياة الثقافية العربية من ذلك التركيز المتزايد على الكم، دون الوصول إليه فى حساب الأرباح والخسائر، لا على النوعية فى شتى المجالات السينمائية، كوباء ثقافى بات متفشيًا فى كل مكان توجد فيه المهرجانات بالشكل الذى تتأسس عليه اليوم، وللأسف تحت مظلة الذكرى بالغة السوء التى تركتها التجارب السابقة والفاشلة، لمهرجان خليجية، وهذا ما يحيلنا إلى العودة للتجربة الأكثر نجاحًا، وهى تجربة «الجونة» التى افتتحنا بها حديثنا هنا، والتعبير عن خشيتنا عليها ونحن نتذكر دوراتها الثمانى فى الحلقة المقبلة.

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات