أصبتُ بالتوتر من السرعة الشديدة التى كانت تسمع بها حفيدتى رسالة من إحدى صديقاتها على الواتساب. هذا الصوت الذى ينطلق بسرعة الصاروخ وتتداخل فيه الحروف ويبدو كما لو كان صادرًا عن شريط بيسّف فى جهاز تسجيل قديم- صوت مزعج جدًا. وأهم من أنه صوت مزعج أنه صوت بلا روح، وكنا قد اعتدنا منذ فترة أن نستعيض عن مكالماتنا الهاتفية برسائل صوتية نطوّع فيها نبرة صوتنا لمقتضيات المناسبة: تهنئةً ومواساةً. وعندما يغيب الأشخاص الذين كنّا قد تبادلنا معهم هذه الرسائل، ويستبد بنا الشوق لهم، فإن استرجاع أصواتهم يعَد مصدرًا للراحة النفسية. خُيّل لى لأول وهلة أن الأمر غير مقصود، وأن حفيدتى ضغطَت على سبيل الخطأ على رقم ٢ الذى يمثّل أقصى سرعة للصوت، وهذا أمر كثيرًا ما يحدث معى، وسرعان ما أتداركه فأضغط على رقم ١ لأسمع وأفهم، وأحيانًا أعيد التشغيل لأستوعب. لكن ابنة الخامسة عشر من العمر فاجأتنى أن هذا هو أسلوبها المعتاد هى وكل فصلها فى الاستماع للرسائل توفيرًا للوقت، وأنها لا تجد أى مشكلة أصلًا فى فهم مضمون الرسائل... فعلًا؟ أجابت على دهشتى بضحكة شقيّة. غريب أمر جيل z الذى يفعل كل شئ بسرعة ويستمتع بكل شئ على عجل من أول قطمة البرجر وحتى أغنية الكوبليه الواحد. لكن مهلًا.. ليس جيل Z هو الجيل الذى بادر باختصار الوقت أو الكلام. تذكَرت أن فنان الكوميديا محمد رضا وهو أحد أبناء الجيل A كان رائدًا لفن الاختزال، فقبل ٦٠ عامًا بالتمام والكمال لعب دور حرامى الغسيل جنجل أبو شفطورة فى فيلم "٣٠ يوم فى السجن"، وكان مغرمًا كما يقول بقصّ الكلا.. أى الكلام، فبدلًا من أن يقول مثلًا إن فلانًا مجنون يقول إنه مجنو.. بحذف النون. وهكذا يوجد سبق لجيل A على جيل Z، لكن آفة حارتنا النسيان .
• • •
لم تفهم حفيدتى معنى قولى إن الصوت السريع لرسالة الواتساب التى كانت تسمعها يشبه صوت سّف الشريط فى جهاز التسجيل، وكان من المفروض أن أدرك ذلك من تلقاء نفسى، فلم تر البنت فى محيطها أى جهاز تسجيل أو شرائط حتى تعرف أن هذه الشرائط يمكن أن تسفّ. لكن من أين جاء تعبير الشريط بيسّف أصلًا؟ دخَلت على قاموس المعانى وبحثت فوجَدت أن سفّ أحدهم الدواء سفّا بمعنى ابتلعه يابسًا دون معجون (حتى هذه اللحظة كنت أظن أن الدواء يُبتَلَع بالماء!)، وسفّ الطائر سفّا أى مرّ على وجه الأرض أثناء طيرانه، وسفّ الشخص الخوص والحصير سفّا أى نسجهما بيديه، وسفّ فلان التراب سفّا أى ندم وخسر (وهذه كنت أعرفها لوحدي). المهم هو أنه بين كل معانى السفّ لا يوجد معنى التلف. بحثتُ أكثر فوجدتُ مفاجأتين، المفاجأة الأولى هى أن هناك أغنية باسم "سفّ الشريط" يتكلم صاحبها عن محاولته التمرد على حياته والخروج على المألوف، لكنه يُفاجأ فى النهاية بأنه يفعل المطلوب منه بالضبط ويعيد الكرّة تلو الكرّة وكأنه "شريط بيسفّ". معانى الكلمات جادة ومكتوبة بحرفية، فالتقاليد بالفعل كثيرًا ما تكون أقوى من قدرة الإنسان على تحدّيها، لكن عنوان الأغنية بدا غريبًا بالنسبة لى والأغرب منه أن الفرقة صاحبة الأغنية اسمها فرقة "قرار إزالة". فى البداية لم أفهم الجملة التى تقول إن شريط بيسفّ غناء قرار إزالة، لكن فى التفاصيل اكتشَفتُ أن هناك فرقة سَكَندَرية موجودة بهذا الاسم منذ عام ٢٠١٢، وأن الإعداد لظهورها كان سابقًا حتى على قيام ثورة يناير. وعلمتُ أيضًا أن هذه الفرقة حصلَت على عدة جوائز مهمة وأجرت حوارات صحفية وظهرَت فى عدد لا بأس به من وسائل الإعلام. أما اسمها فإنه مستوحى من رفض كل ما هو خطأ، وهذه أيضًا رسالة نبيلة لكن الاسم بدا لى للمرة الثانية شديد الغرابة. تخيّلت نفسى وأنا أحجز عن طريق النت تذكرتين لحضور حفلة قرار إزالة.. وابتسَمت. أين كنتُ طيلة ١٣ عامًا من عمر هذه الفرقة؟ بالتأكيد لستُ متابعة جيدة للأغانى الشبابية، لكن ليس لهذه الدرجة، فثلاثة عشر عامًا فترة طويلة جدًا، وهنا وجب شكر سفّ الشريط الذى عرَفنى على هذه الفرقة المختلفة.
• • •
أما المفاجأة الثانية فهى أننى وجدتُ ڤيديو يشرح السر وراء سفّ شريط التسجيل، وهو السر الذى يجهله الكثيرون كما قال صاحب الڤيديو، ويحاول أن يساعد المشاهدين فى الفهم وفى معالجة السفّ. تابعت الرجل بفضول وهو يصلح البكرة التى لا تسحب الشريط ويلّف الأستك المناسب حولها حتى تدور وتعود للعمل مرة أخرى بشكل منتظم. وخرجت منه بحصيلة لغوية لا بأس بها أبدًا عن الحدّافة والرونديلا وطنبورة الموتور، أتمنى لو وجدَت مكانها فى قاموس المعانى وقدّرت أن المتكلم لديه فكرة لكن غير واضحة فى ذهنه عن مسألة حقوق الملكية الفكرية حين قال إنه "خايف من حقوق الطبع علشان من اليوتيوب!!"، من دون أن يكون فى الموضوع أيها طبع!. لكن من المؤكد أن تنفيذ التعليمات الواردة فى هذا الڤيديو التعليمى تحتاج إلى صبر أيوب فعملية الإصلاح بها تفاصيل كثيرة وتلزمها أصابع تتلف فى حرير ولها خبرة فى عالم الإلكترونيات. لكن قبل الحرفية والصبر فإن الاستفادة من الشرح تتطلب أن يكون المشاهد مازال يحتفظ بـ"العِدّة" أى بجهاز تسجيل عنده فى البيت ويكون هذا الجاهز قابلًا للإصلاح والتشغيل. وإلا فإن البديل هو أن يجد المشاهد نفسه فى مكان سرحان عبد البصير أو عادل إمام فى مسرحيته الشهيرة "شاهد ما شافش حاجة" عندما قام بدفع فاتورة التليفون خوفًا من أن ترفع مصلحة التليفونات عنه "العِدّة"، بينما لا توجد لديه "عدّة" من الأصل.