نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للباحثة الصينية «ما تاو (بسيمة)» حول مراحل ترجمة الأدب العربى إلى اللغة الصينية والتحديات التى تواجهه.
استهلت الباحثة حديثها بالإشارة إلى أن تاريخ ترجمة الأدب العربى فى الصين يعود إلى أكثر من ثلاثمائة سنة، حيث كانت البداية مع ترجمة القرآن الكريم فى فترة ما بين نهاية حُكم أسرة مينغ وبداية حُكم أسرة تشينغ الملكيتَيْن. وتجلى أول مظاهر ترجمة القرآن الكريم فى اقتباسات الفقهاء المسلمين لآياتٍ قرآنية فى تفسيراتهم وملاحظاتهم.
شهدت نهاية القرن التاسع عشر أول محاولة لترجمة القرآن بشكل كامل بمبادرة من الفقيه الصينى «ما ده شين»، غير أن محاولته لم تحظَ بالنجاح التام، وتوقفت بعد قتله من قبل حكومة تشينغ، بحيث لم يتبق من ترجمته إلا خمسة مجلدات من أصل عشرين مجلدا، وذلك يمثل مجرد سُدسِ القرآن الكريم. كان «ما ده شين» أيضا أول مَن تَرجَم القصيدة العربية إلى الصينية، فعاد إلى الصين من البلاد العربية فى العام 1868 حاملا معه قصيدة «البردة» لمحمد بن سعيد البوصيرى، وقام بترْجمتها من اللغة العربية إلى اللغة الصينية من أجل تعميق فَهْم الناس لدين الإسلام.
تمت طباعة القصيدة ونشْرها باللغتَين العربية والصينية فى العام 1890 فى مدينة « تشن دو» مُضافا إليها بعض التهذيب والتفسير من تلميذه «ما آن لى» ومن هنا يُمكن القول إن ترجمة الأدب العربى فى الصين جاءت أو انطلقت عن طريق علماء مسلمين مثل «ما ده شين»، لكن تأثيراتها كانت محدودة ومُقتصرة على الأقليات القومية التى تدين بالإسلام. أما الشعب الصينى عموما، فلم يعرف الأدب العربى حتى ظهور ترجمة كتاب «ألف ليلة وليلة». لقيَت حكايات «ألف ليلة وليلة» إقبالا كبيرا من القراء الصينيين حتى أصبح الكِتاب مُرادِفا للأدب العربى فى الصين لفترة من الفترات، على الرغم من أن الترجمة تمت من اللغة الإنجليزية أو اليابانية وليس من العربية.
الإقبال على ترجمة القرآن الكريم
شهد المجتمع الصينى غزوات ومقاومات وثورات وإخفاقات عدة فى النصف الأول من القرن العشرين، واعتبَر المثقفون الصينيون حينذاك المَعارف الأجنبية نافذة تسمح لهم بأن يطلوا منها على العالَم الخارجى ووسيلة لتنوير الشعب. فى هذا الإطار، لاح الأدب العربى الحديث فى أُفق القراء الصينيين بجهود بعض الكتاب المشهورين، من بينهم ماو دون، وبينغ شين؛ إذ قام هذان المُترجمان بترجمة بعض القصائد النثرية للأديب جبران خليل جبران من اللغة الإنجليزية إلى الصينية. وفى الوقت نفسه، ظهرت الترجمة الكاملة للقرآن الكريم لأول مرة فى العام 1927 بفضل المُترجم غير المُسلم لى تيه تشنغ الذى ترجم القرآن الكريم وفقا لنسخته اليابانية وأخذ من النسخة الإنجليزية مرجعا له، الأمر الذى ولَّد تيارا لترجمة القرآن الكريم بين المسلمين داخل الصين وخارجها؛ فبَرزت بضع عشرة نسخة مُترجَمة للقرآن على مدى العقدَين التاليين. وإلى ذلك، ترجم الكاتِب تشهغ تشن دوه من الإنجليزية إلى الصينية بعض المقاطع من قصائد الشعراء الأربعة المشهورين فى العصر العباسى، وهُم أبونواس، وأبوالعتاهية، والمتنبى، وأبوالعلاء المعرى، وذلك فى كِتابه «مقدمة فى الأدب».
من ناحية أخرى، ازدادت شُهرة كِتاب «ألف ليلة وليلة» إلى حد سعى فيه مُترجمون كُثر إلى ترجمته إلى الصينية، وبلغ عدد الكُتب المُترجِمة لحكاياته فى هذه الفترة أكثر من عشرة. ومع ذلك، كان كل ما يُترجَم من الأدب العربى فى هذه الفترة ينطلقُ من لغة أخرى غير اللغة العربية، ما عدا كِتاب «ألف ليلة وليلة» الذى ترجمه العالِم المُسلم ناشيون مباشرة من اللغة العربية، وتم نشر الكِتاب فى خمسة مجلدات فى العام 1941.
وصلت مَسيرة ترجمة الأدب العربى فى الصين إلى ذروتها الأولى فى السنوات الخمس عشرة الأولى بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية فى العام 1949، إذ اندمجت قضية ترجمة الأدب الأجنبى فى إطار توطيد السلطة الاشتراكية الجديدة وتوسيع حركة الاستقلال المُناهِضة للإمبراطورية والاستعمار فى العالَم. وأدى ذلك إلى تفوق الأيديولوجية السياسية على الجمالية الفنية فى عملية اختيار الأعمال، وأصبحت ترجمة الأدب الأجنبى حركة سياسية مخطَطة من قبل الحكومة فى سياق الحرب الباردة. صدر فى هذه الفترة أكثر من عشرين ديوانا ومجموعة قصص للجزائر وليبيا ومصر وسوريا والعراق والأردن وغيرها من الأقطار العربية، وكان معظم الأعمال قد تُرجم من اللغة الروسية وتمحوَر حول موضوع ثورة الاستقلال أو النضال من أجل العدالة. والجدير بالذكر أن تعليم اللغة العربية فى الصين خطا خطوة مهمة ودخل فى صفوف الجامعات الصينية فى العام 1946، وكانت الأعمال المُترجَمة مباشرة من العربية فى هذه الفترة القصيرة جميلة وبديعة وإن كانت نادرة الوجود، ومن أبرزها كِتاب «كليلة ودمنة».
غرقت الصين فى فوضى وانتكاساتٍ سببها ما عُرف بـ«الثورة الثقافية الكبرى» التى بدأت فى العام 1966، ودامت حالة الركود فى جميع المجالات لعشر سنوات، فاندثرت كل أنشطة الإبداع الأدبى والفنى فى هذه الفترة، بما فى ذلك عملية ترجمة الأدب الأجنبى. ولم تعُد الحيوية الثقافية إلى الصين إلا بحلول العام 1978.
طرأت تحولات كُبرى فى المجتمع الصينى منذ هذا التاريخ بسبب تنفيذ الصين سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج، والتى امتدت تأثيراتها إلى المجال الثقافى وأنتجت تحررا فكريا ميَز تاريخ الصين الحديث؛ إذ تراجَعت القيود السياسية والإيديولوجية التى كانت مفروضة على الدائرة الأدبية والفنية فى الصين، وازدادت الاهتمامات بالقيمة الأدبية عند اختيار الأعمال، كما تَوسَع فريق المُترجمين الأكفاء نتيجة إنشاء تخصصٍ فى اللغة العربية فى أكثر من عشر مؤسسات للتعليم العالى، وتم إدراج تاريخ الأدب العربى فى البرنامج الدراسى لتلك المؤسسات.
ازدهارٌ غير مسبوق لترجمة الأدب العربى.. ولكنْ..
أسهمت هذه المُبادرات كلها فى تحقيق ازدهارٍ غير مسبوق لترجمة الأدب العربى فى الصين، فتم، من خلال ما يُناهز العشرين سنة، نشْر ما يُقارب مائتى عمل مُترجَم من الأدب العربى، بما فيها روايات ودواوين ومسرحيات وأساطير شعبية وغيرها. وكان معظم هذه الأعمال يُنقَل من اللغة العربية مباشرة. وتَسبَب الأدب العربى فى تراجُع الدَور المركزى الذى اضطلع به الأدب الأوروبى سابقا فى إطار الأدب العالَمى، ولم يعُد الأدب العربى غائبا فى مؤلفات الأدب العالَمى أو الأدب الأجنبى فى الصين بفضل جهود مُشترَكة بذلتْها الأطراف كافة.
تطوَرت ترجمة الأدب العربى بحلول القرن الحادى والعشرين متأثرة بالتعددية الثقافية على مستوى العالَم، وبتخفيف القيود على بيئة الإبداع الأدبى والفنى، وبتسويق صناعة الترجمة والنشر فى الصين. وعلى هذا، عادت ترجمة الأدب العربى إلى وظيفتها الأصلية المتمثِلة بتلبية الاحتياجات الجمالية للشعب وتعزيز التبادُلات الثقافية بين الصين والدول العربية. ولكن وتيرة ترجمة الأدب العربى فى الصين سرعان ما تباطأت منذ انضمام البلاد إلى المنظمة العالمية للملكية الفكرية فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، وما زالت قضية ترجمة الأدب العربى تُواجِه تحديات عدة تتمثل فى النقاط الثلاث التالية:
أولا، تأثُر عملية الترجمة بالنزعة الاستهلاكية فى هذا العصر الذى يتسم بعَولمة الأسواق، ما أدى إلى تراجُع المعايير الجمالية للترجمة الأدبية فى اختيار الأعمال وإلى التأثير السلبى على استراتيجية المُترجِم إلى حدٍ ما.
ثانيا، إن معظم مشاريع نشر الأعمال المُترجَمة من اللغة العربية مموَلة من الحكومة الصينية، لكن المنشورات الخاصة بهذا النوع من المشاريع تنتهى دائما فى المخازن من دون اتخاذ أى مُبادرة للتسويق باستثناء جزء صغير منها يدخل السوق ويُواجِه مَأزق ضعف المبيعات. ويعود السبب فى ذلك إلى عدم وجود إشراف فعال من جانب الحكومة وسعى دُور النشر وراء الأرباح. وهذا ما يشكِل عائقا للأعمال المُترجَمة من الأدب العربى فى الصين فى الوقت الراهن، لأن فئة قرائها تقتصر على بعض متعلمى اللغة العربية أو الباحثين فى مجالات ذات صلة بها ليس إلا.
ثالثا، يبدو حجم فريق مُترجمى الأدب العربى فى الصين الآن ضخما، ظاهريا على الأقل، إلا أن هذا الفريق يتكون من مُترجمين من شتى المستويات. وعلى الرغم من أن الترجمة بين اللغتَين العربية والصينية أصبحت تخصُصا مِهنيا مُستقلا عن قسم اللغة العربية فى السنوات الأخيرة، إلا أن تدريب المُترجمين الأكفاء بين اللغتَين لا يزال بعيدا عن معيار الاحتراف والتنظيم المَنهجى. فتتفاوت نوعية ترجمة مؤلفات الأدب العربى نتيجة لذلك.
خلاصة القول إن قضية ترجمة الأدب العربى فى الصين تتقدم بفضل جهود دؤوبة تبذلها أجيالٌ من العُلماء والمُترجمين. فقد شهدت حركة الترجمة ذروتَيْها سابقا، وهى تتطور فى الوقت الحالى بثباتٍ واستمرار، لكن الطريق أمامها لا يزال طويلا.
النص الأصلى