نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب يوسف مكى، يشير فيه إلى أن نهاية حرب غزة ستساهم فى التسريع بتشكيل نظام عالمى جديد كما حدث مع الحروب الكبرى السابقة مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، فعادة يشهد العالم هذه التحولات بموازين القوة الدولية بعد أن تضع الحروب الكبرى أوزارها ويحدد المنتصر شكل النظام الجديد.. نعرض من المقال ما يلى:
قبل عقدين من الزمن بدأ الحديث عن ترقب انبثاق نظام دولى جديد، بديل عن الأحادية القطبية، التى سادت بعد سقوط الاتحاد السوفييتى. ولأن تفرد قوة بالهيمنة على العالم، نشاز فى التاريخ، لم تعمر طويلا. وقد شهدت نهاية العقد الأول من هذا القرن، بداية النهاية لذلك التفرد.
تاريخيا فإن التحولات بموازين القوة الدولية، لا تتحقق إلا من خلال حروب كبرى يحدد فيها المنتصرون شكل النظام الدولى الجديد، ويفرضون شروطهم على المهزومين.
هكذا كان الحال، بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمت هزيمة السلطنة العثمانية وألمانيا، وفرض المنتصرون معاهدة فرساى، التى أذلت ألمانيا.
وبالنسبة للعرب، وبشكل خاص الجزء الشرقى من الوطن العربى، كانت نتائج تلك الحرب وبالا على الأمة ووحدتها. فقد نتج عنها اتفاق سايكس ــ بيكو الذى قسم بلاد الشام والعراق، بين فرنسا وبريطانيا. وشهد عام 1917، صدور وعد بلفور، بإقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين، وليكون ذلك بداية تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والاستيلاء تدريجيا على ممتلكات سكانها الأصليين.
انتهت الحرب العالمية الأولى، بانتصار البريطانيين والفرنسيين، وكانت الولايات المتحدة تستعد أثناءها للخروج من المحيط، فى شكل قوة متحضرة ورافضة للاستعمار. وقد دشن الرئيس الأمريكى ويدرو ويلسون، هذا الحضور، بإعلان حقوق الإنسان بمبادئه الأربعة عشر، التى أعلنت أن الاستعمار عمل غير أخلاقى ومقيت، وأقرت حق الشعوب فى تقرير المصير.
انعكست نتائج بيان ويلسون، على المسميات التى أطلقت على احتلال بلدان المشرق العربى، فما كان فى الماضى يعدّ احتلالا واستعمارا، جرى تغليفه بمفردات جديدة، هى الحماية والانتداب والوصاية. ولم يتنبه أحد فى حينه لمعنى وأهداف هذه المفردات. فقد كانت جميعها تشير إلى أن وجود البريطانيين والفرنسيين فى تلك البلدان، هو عمل مؤقت، ريثما يكون اليانكى الأمريكى، جاهزا لإزاحة حلفائه، والإحلال مكانهم بآليات وأغلفة وأشكال مختلفة.
وكانت الحرب العالمية الثانية، وما شهدته من سقوط لفرنسا أمام الهجوم النازى، وتأسيس حكومة فيشى الموالية للألمان، وأيضا تعرض بريطانيا، وعاصمتها لندن لهجمات متكررة من الطيران الألمانى، وخروجها منهكة اقتصاديا ــ فسحة لإزاحة الاستعمار التقليدى من المنطقة، وتبنى إدارة الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور لسياسة الباب المفتوح، الذى فتح الباب على مصاريعه لتنفيذ استراتيجية الإزاحة.
الحرب العالمية الثانية، انتهت ببروز السلاح النووى، وإلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتى هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين. وأيضا الالتحاق السريع للاتحاد السوفييتى بالنادى النووى، وبقاء ذلك حكرا على أمريكا وروسيا لفترة من الزمن.
وقد عنى ذلك، ضمن ما يعنيه، استحالة اندلاع حرب عالمية جديدة؛ لأن معنى ذلك لو تحقق فناءً مبرما للبشرية، وتحمل ذلك بالتأكيد هو فوق طاقة البشر. ولأن الصراع بين الدول الكبرى، هو أقرب للقانون الطبيعى، فإن البديل عن ذلك هو حروب الوكالة. وهكذا شهدنا هذا النوع من الحروب، منذ الخمسينيات من القرن الماضى، فى حرب كوريا، وفى الحرب التى دارت بالهند الصينية: فيتنام ولاوس وكمبوديا، وفى الحروب العربية ــ الإسرائيلية، حيث حارب العرب بالسلاح الروسى، بينما حاربت إسرائيل بالسلاح الغربى.
وضمن ذلك كانت العملية الخاصة التى شنتها روسيا على أوكرانيا، ووقوف الإدارة الأمريكية بقوة إلى جانب أوكرانيا.
ما يجرى الآن من عدوان وحشى على غزة، هو جزء من حرب الوكالة. فأمريكا اختارت أن تكون بالعلن شريكا لإسرائيل، وقد وقفت ضد أى قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولى يطالب بوقف الحرب، ووقفت روسيا بقوة إلى جانب وقف الحرب. وانقسم العالم بين مناوئ للعدوان تقوده روسيا والصين، ومعها الدول العربية، وبين مؤيد له بقيادة أمريكا وحلفائها.
إن نهاية الحرب على غزة، ستُسهم دون شك، فى التسريع بانبثاق النظام الدولى الجديد، وتحديد شكله والقوة الفاعلة فيه.