فى معظم المرات التى أزور فيها المهندس إبراهيم المعلم فى المقر الرئيسى لدار الشروق فى مدينة نصر، أتلقى منه أفضل هدية بالنسبة لى، وهى أحدث الإصدارات من كتب هذه الدار العريقة. قد لا أملك الوقت الكافى لقراءة كل الكتب الجيدة، لكن فرحة الحصول على كتاب جديد لا تعادلها فرحة أخرى، خصوصا إذا كان كتابا يحمل جديدا ومختلفا فى عالم الفكر أو السياسة والاقتصاد أو كتب السيرة والمذكرات، أو رواية يجمع عليها الكثيرون. يوم الأربعاء الماضى زرت الدار وحصلت على بعض الكتب الجديدة والقديمة. ولو جاز لى أن أرشح للقراء بعض ما أعجبنى، فإن الكتاب الذى لفت نظرى مؤخرا وأراه شديد الأهمية هو «صحوة المحكومين فى مصر الحديثة ..من رعايا إلى مواطنين» وهو يتناول هذه الظاهرة فى الفترة من ١٧٩٨ إلى ٢٠١١». الكتاب تأليف محمود حسين، وترجمة الدكتور محمد مدكور. قد يستغرب البعض أن الكتاب مترجم فى حين أن مؤلفه عربى مصرى ويدعى محمود حسين، لكن ليس ذلك هو الغريب فقط. ومن حسن حظى أننى حضرت الندوة المهمة لمناقشة هذا الكتاب قبل شهور قليلة فى مبنى قنصلية بمنطقة وسط البلد. ومن خلال مقدمة الدكتور محمد مدكور للكتاب فإن اسم محمود حسين هو مجرد اسم مستعار مشترك لاثنين من المؤلفين المصريين هما بهجت النادى وعادل رفعت، وهما قضيا جزءا من شبابهما فى السجون فى العهد الناصرى بحكم انتمائهما لليسار، ثم سافرا لفرنسا نهاية الستينيات من القرن الماضى، وحصلا على الجنسية الفرنسية زمن الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران الذى توسع فى منح الجنسية للعديد من الكتاب والمثقفين. النادى ورفعت أصدرا العديد من الكتب ونالا معا دكتوراه الدولة فى فلسفة التاريخ وكانا صديقين لجان بول سارتر وميشيل فوكو وجاك بيرك وغيرهم من أدباء ومثقفى فرنسا.كما عملا مستشارين لأحمد مختار أومبو، أول مدير عام إفريقى ومسلم لليونسكو وأدارا مجلة هذه المنظمة الثقافية. هما لم ينفصلا عن مصر، وجمعا العديد من المواد والأطروحات والكتب، حتى كتبا هذا الكتاب الموسوعى، الذى كما يقول د. مدكور يحدد قراءتنا لمرحلة دخول مصر عالم الحداثة بصورة شاملة، ويقدم صورة مجسدة لمصر خلال القرنين الماضيين بكل أبعادها. والأهم فى هذا الكتاب أنه لا يقدم مصر بالصورة التقليدية النمطية الشائعة ، بل من خلال الناس العاديين، خصوصا من زاوية تتبع ظهور وتبلور وعيهم الذاتى المستقل والنمو التدريجى لهذا الوعى. الكاتبان لا يزالان يجيدان العربية، بل وكما يقول د. مدكور، فقد تدخلا فى ترجمته أكثر من مرة بإضافات مهمة، لدرجة أنه سألهما: إذا كنتما لا تزالان تجيدان العربية، فلماذا لم تقوما بالصياغة بنفسيكما»، لكنه لم يتلق إجابة مباشرة. الكتاب يبدأ من نهاية القرن الثامن عشر، وفى التقديم يقول المؤلفان إن سنة ١٧٩٨ مثلت منعطفا حاسما فى تاريخ مصر ولحظة انقطاع بين عصر ما قبل الحملة الفرنسية وما بعدها، قبل الحملة سادت نظرة شمولية ولاهونية للعالم، وبعدها عاشت مصر لحظة تأزم. وأخذت تتبنى بشكل تدريجى ومتعرج وأليم نظرة جديدة تقوم باستقلالية الشأن الدنيوى عن الشأن السماوى وهكذا كانت بداية الانتقال من مجتمع تقليدى إلى مجتمع حديث. الكتاب يتكون من ستة أجزاء: الأول بعنوان « مصر ولاية عثمانية..السيادة الإلهية والطاعة البشرية» ١٧٩٨. والثانى انفصام العالم «١٧٩٨ ــ ١٨٠٥» أى السنة التى تولى فيها محمد على حكم مصر بقرار من الشعب المصرى. والجزء الثالث عنوانه «تكون الضمير المصرى» «١٨٠٥ ــ ١٨٨٢» أى مرحلة محمد على وأولاده حتى وقع الاحتلال الإنجليزى. أما عنوان الجزء الرابع فهو ولادة الوعى الذاتى «١٨٨٢ ـ ١٩٥٢» أى من أول الاحتلال، وحتى قيام ثوة يوليو . والجزء الخامس عنوانه «الضمير الشعبى المصادر» من ١٩٥٢ ــ ٢٠١١، وأظن أن العنوان شديد الدلالة ولا يحتاج لمزيد شرح. وفى الجزء الأخير جاء العنوان «تكون الضمير المواطنى». الكتاب به رصد تفصيلى لنشأة وتطور وعى المصريين العاديين بحقوقهم، وفى نهايته يقول المؤلفان إنه عندما تحرر المحكومون من نظرتهم الاسطورية للسلطة طوال قرنين، فإن علاقتهم بالوطن التى كانت علاقة ملتبسة، بالزعيم الوطنى قد تحولت، حتى وإن اختلفت درجات الارتباط الكامل بهذا الحاكم من أحمد عرابى إلى سعد زغلول ومن مصطفى النحاس إلى جمال عبدالناصر، ومن أنور السادات إلى حسنى مبارك. حسب رؤية المؤلفين فإن الزعيم فى مصر مثل لفترات طويلة وحدة الكيان الوطنى. لكن فى المرحلة الأخيرة من عهد مبارك فإن الفئات الشعبية الطبيعية سحبت منه هذه الصفة، وبعدها تبلور شعور وطنى جديد يقوم على صلة عضوية مباشرة حسية بين الوطن وكل أبنائه، بعد أن أصبح الفرد مستقلا ذاتيا، أى مسئولا عن نفسه وطمح إلى أن يمارس مسئوليته تجاه وطنه، ويتوقف الكتاب عند اندلاع ثورة بناير ٢٠١١. بطبيعة الحال يمكن الاتفاق والاختلاف مع هذه الرؤية التى يقدمها الكتاب، لكنه يظل مهما جدا ويقدم رؤية مختلفة وجديدة كليا تركز على الناس العاديين . نسيت أن أقول إنه فى يوم الأربعاء لم أحصل فقط على كتاب «صحوة المحكومين»، بل كان هناك أيضا الأعمال الكاملة للشاعر الكبير أمل دنقل. بالطبع هى ليست جديدة، لكن تظل إعادة قراءتها ممتعة خصوصا «كلمات سبارتكوس الأخيرة» و«أوراق الغرفة رقم ٨». كانت هناك أيضا رواية تاريخية عظيمة للدكتور إيمان يحيى وهى «رصاصة الدلبشانى» وهى رواية مهمة ويكفى أن الأديب والكاتب الكبير محمد المخزنجى كتب عنها: «هذه رواية إيمان يحيى الرابعة» وهى الرصاصة التى أصابت صدر سعد زغلول ولم تقتله، لكنها لم تخرج من جسده، بل لم تخرج النفس والروح .. هى دراما تتوزع على أشخاص عدة من العشاق والمتعصبين والضحايا والجناة». فى يوم الأربعاء قابلت الدكتور المخزنجى فى دار الشروق بصحبة المهندس إبراهيم المعلم والدكتور عاطف معتمد وهو لقاء سأحاول العودة إليه لاحقا إن شاء الله.