يدور نزاع فى المحاكم الكندية بين ممثلى قبائل الهنود الحمر وشركة كبرى تعمل فى التعدين. تريد الشركة الاستيلاء على بحيرة فى مقاطعة كولومبيا البريطانية فى أقصى غرب كندا، لتفريغها من المياه وتحويلها إلى مستودع لحفظ الصخور السامة التى تتجمع نتيجة عمليات التعدين التى تقوم بها الشركة فى أنحاء من المقاطعة ومقاطعات أخرى. اجتمع الشيوخ الذين يمثلون أكثر من 100 قبيلة من قبائل الهنود الحمر الذين سكنوا المنطقة على امتداد آلاف السنين وقرروا اللجوء إلى القضاء لمنع استيلاء الشركة على البحيرة. قالوا إن البحيرة جزء من تراث قبلى يصل إلى حد التقديس، ففى قاعها والتلال المحيطة بها دفنت آلاف الجثث عبر القرون. قالوا أيضا إنهم كانوا يزمعون إقامة مدارس حول البحيرة تلقن أطفال القبائل والأجيال الشابة القيم التى ورثوها عن الأجداد، بخاصة الأديان التى سادت قبل وصول الرجل الأبيض وعادات الناس وطرق حياتهم. عرضت الشركة على القبائل نقل البحيرة إلى مكان آخر. وأبدت استعدادها أن تنقل مع المياه الأسماك التى تعيش فيها ومزارع الأعشاب الطبيعية التى تقوم القبائل بزراعتها على ضفاف البحيرة وتعيش على بيعها أو تصنيعها.
وفى ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة تقع منطقة مساحتها لا تتجاوز 15هكتارا، يحج إليها المئات من أبناء الهنود الحمر باعتبارها أحد أقدس مدافن الأمة الهندية التى أباد الرجل الأبيض معظم شعوبها خلال القرون الأربعة الأخيرة. تريد حكومة الولاية مصادرة المنطقة المقدسة لمد شوارع وطرق وإقامة مراحيض عامة تمهيدا لإقامة متنزه عام. وقد قوبل المشروع بثورة بين الهنود الحمر بزعم أن إقامة مراحيض وشق طرق يحمل معنى الإهانة المتعمدة لتراث الهنود وإساءة إلى أرواح أجدادهم وتفريطا فى ثروتهم الثقافية.
الشعوب الأصلية تنتفض فى كل مكان وتطالب بإحياء تراثها والمحافظة على خصوصياتها الثقافية والدينية. ويبدو أنها تجد دعما من جماعات ومدارس أكاديمية فى دول الغرب تؤمن حقيقة بأن نزع التراث والفصل بين الشعوب وأصولها التاريخية الثقافية يعادله تماما نزع مقومات المناعة من جسد الإنسان. إنسان بدون «أصل» هو إنسان فاقد القدرة على مقاومة القوى أو الأفكار المغيرة والتصدى لها أو حتى التأقلم معها من موقع الصحة والعافية. يكتبون الآن عن «الفضاء الإثنى» ويعرفونه بأنه مجموع الأفكار والمعتقدات والأساطير والأحاسيس ومصادر الإلهام التى ساهمت فى تكوين «الخيال الإنسانى» منذ فجر التاريخ. وإذا أنت حرمت أمة من فضائها الإثنى فقد حكمت عليها بالإبادة الثقافية لتعيش فى فضاء غير فضائها وتدين بغير دينها وتنطق بغير لغتها ويحكى الكبار للصغار أساطير وسِيَرًا من تراث أمم أخرى ويحلم الجميع أحلام الآخرين.
راح خيالى يشرد فى اتجاهات متعددة. سألت أولا، ماذا كان يمكن أن يكون عليه الآن فضاؤنا الإثنى لو أن مصر رزقت بحواسين كثيرين (جمع زاهى حواس) وبعثات استكشافية وتمويلات أجنبية، فى عصور كانت مظلمة مثل معظم عهود المماليك والحكم العثمانى، وعصور أخرى أهملت كنوز التراث الفرعونى. سألت ثانيا عن إسرائيل التى لا يتوقف كهنتها وحكماؤها عن تقديس موتاهم وتراثهم ويبحثون ليل نهار عن «مقدساتهم» تحت أراضى القدس العربية، لكنهم لا يبحثون عنها داخل الأراضى التى أقاموا عليها دولتهم وعمائرهم. ولا يهتمون إن كان تراثهم مدفونا تحت مستوطنات يشيدونها على أراضى انتزعوها من العرب.
تذكرت أبيات شعر كانت تطل من ذاكرتى فى كل مرة خرجت فيها إلى الخلاء فى مصر وفلسطين وإيطاليا وقبرص ودول فى أمريكا الوسطى والهند ومشيت فوق أراض مشت عليها جحافل جيوش وأقيمت عليها وفى بطنها مقابر تنافس الأبدية أو تتطلع إليها وعاشت فوق سطحها أمم نسجت أساطير وصاغت روايات وابتكرت عقائد وقيما، أكثر هذه الأمم كان واثقا أنه تركها أمانة فى أعناق الأجيال لتجدها فى انتظارها عندما تبعث حية.
يقول الشاعر فى هذا المعنى:
سر إن استطعت فى الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
ويقول شاعر آخر:
قفى قدمى، إن هذا المكان يغيب به المرء عن حسه
أقلب طرفى ذاهلا وأسأل يومى عن أمسه
أكانت تسيل عليه الحياة وتغفو الجفون على أنسه