كما أوضحت فى سلسلة مقالات سابقة بعنوان «وعى إسلامى مختلف»، فإن الرسالة النقية التى نزلت على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لا تتحدث من تلقاء نفسها مع المسلمين المعاصرين لعدة عوامل أهمها الفارق الزمنى الرهيب بين وقت نزول الرسالة وبين العصر الحالى، حيث تبلغ هذه المسافة الزمنية أكثر من 1400 عام تغير خلالها الزمن وتطورت الأرض وتزايدت المعارف والعلوم وتحولت أدواتها مما جعل مهمة النقل من الرسالة النقية مباشرة أمرا مستحيلا، فإذا ما أضفنا إلى ذلك تفاوت المسلمين كبشر أولا وأخيرا من حيث مستوى الإدراك والخلفيات الاجتماعية والثقافية وكذلك من حيث تعدد البيئات واللغات، فإنه لا يكون من الممكن عقلا أن تتحدث الرسالة إلى المسلمين إلا عبر وسطاء.
أكثر من 1400 عام ظهرت فيها عشرات المذاهب والفرق والطوائف الإسلامية وتعددت فيها الظروف التاريخية التى أخرجت لنا عشرات الآلاف من العلماء ومئات الآلاف من الفتاوى، كلها شكلت وعى المسلمين عبر المراحل التاريخية المتعاقبة منذ نزول الوحى على الرسول الكريم وحتى الآن.
•••
أبدأ من اليوم الحديث عن أهم علماء المسلمين المعاصرين وكيف تحدث الإسلام من خلالهم إلينا. أبدأ اليوم بواحد من أهم هؤلاء العلماء حيث أتحدث عن الشيخ «محمد الغزالى» الذى مرت منذ أيام قليلة ذكرى وفاته الحادية والعشرين. أتذكر يوم وفاة الشيخ جيدا، فقد كنت مازلت طالبا فى الثانوية العامة وقد قرأت له عدة كتب كأول عالم إسلامى على الإطلاق أقرأ له. وقت وفاة الشيخ أتذكر أنى لم أكن قد انتهيت بعد من كتابه «جدد حياتك»، وفور علمى بنبأ الوفاة فقد حزنت كثيرا لأن هذا الشيخ الجليل كان ولايزال معى لا بكيانه الذى واراه الثرى ولكن بعلمه وكتبه التى شكلت وعيى المبدئى عن الإسلام فى فترة انتشر فيها شيوخ التعصب والتزمت والعنف.
بدأت فى قراءة كتب الشيخ الغزالى فى مرحلة مهمة كانت ردة فعل طبيعية على طغيان شخصيتن شهيرتين فى هذا الوقت. كانت الأولى هى شخصية الشيخ «وجدى غنيم» الذى انتشر من خلال «شرائط الكاسيت» حيث كانت تحمل الأخيرة دائما أفكارا متشددة لمجموعة من الشيوخ الشعبويين المغضوب عليهم من السلطة. ولعل نجم هذه المرحلة فى حياتى (1992 – 1995) كان الشيخ غنيم الذى أعجبنى فيه كما أعجب به معظم أبناء جيلى من أبناء الطبقة المتوسطة طريقته السلسة فى الشرح وروح الفكاهة التى تطغى عليه، ولكن سريعا ما تمردت على الشيخ لتزمته الشديد فى قضايا الموسيقى والفن (حيث أعشقهما بشدة)، وكذلك لتهكمه باستمرار على فكرة الدولة فى مقابل الأمة وهو أمر لم أتساهل معه أبدا؛ وخصوصا أن زعيم هذه المرحلة من حياتى فى تشكيل وعى السياسى كان الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، والذى كنت قد فرغت للتو من كتابه الأشهر «خريف الغضب» الذى أغضبنى بدوره من السادات بشدة ولكن قربنى بقوة من عبدالناصر، الأمر الذى تغير بعد ذلك بسنوات قليلة وفى كل الأحوال فقد ساعدتنى كتابات هيكل على التمرد على شرائط غنيم!
أما الشخصية الثانية التى أثرت على قبل أن أقرأ للشيخ الغزالى فقد كانت شخصية «الشيخ الشعراوى» والذى انتشر بقوة عبر تلفزيون الدولة الرسمى ووجدت أن طريقته ليست فقط شعبوية ولكنها أكثر محافظة بسبب ارتباطه الدائم بالسلطة. فكان التمرد على الشيخين الشعبويين غنيم المعارض المشاكس، والشعراوى المحافظ، هو اللجوء للطريق الأصعب وهو طريق القراءة لا الاستماع ومع أول كتاب قرأته للشيخ الغزالى «فقه السيرة»، فقد عرفت أن هذا الرجل هو الوحيد القادر على كبح جماح تمردى على الموروثات ومصالحتى عليها ولكن بوعى مختلف تماما عن هذا الوعى القديم الذى كان قد قاده الشعراوى وغنيم كلا بطريقته وحساباته المختلفة.
•••
فى خلال الفترة بين 1995 و2001 قرأت عددا كبيرا من مؤلفات الشيخ الغزالى ولعل أبرزها (فقه السيرة، جدد حياتك، الدعوة الإسلامية فى القرن الحالى، مستقبل الإسلام خارج أرضه، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، سر تأخر العرب والمسلمين، الحق المر، الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين، الإسلام والاستبداد السياسى). من خلال هذه الكتابات فقد أعجبنى فى الشيخ أولا طريقة العمق فى التحليل عبر تناول التطور التاريخى للإسلام منذ ميلاد الرسول وحتى اللحظة، فلا يتم الشرح فى فراغ ولكن فى إطار تحليل تاريخى سياسى فريد أدعى أن أحدا لم يقدر على تكراره بهذا الشكل البديع حتى اللحظة.
أعجبى ثانيا فى كتابات الشيخ إظهاره لقدر كبير من السماحة والمرونة تجاه الفن والموسيقى وهو ما عبر عنه بكلمات صريحة واضعا مبررات كثيرة شرعية، أتذكر جيدا قوله إن الاستماع إلى الموسيقى أفضل بكثير من تحويل قراءة القرآن إلى لحن موسيقى (كان قد انتشر فى ذلك الوقت شرائط كاسيت لقراءة القرآن بما يشبه الغناء)، ثم قد أعجبنى ثالثا قدرته على النقد الذاتى لتجربة الحكم الإسلامى وقد خصص عددا من كتاباته لنقد تجربة الحكم العباسى والعثمانى، فضلا عن نقد العلماء المعاصرين وبعض أفكارهم بجرأة ووضوح مثيرين للإعجاب.
قطعا ما أعجبنى فى كتابات الشيخ الغزالى وأنا فى عمر العشرين قد لا يثير نفس القدر من الإعجاب الآن وأنا فى النصف الثانى من العقد الثالث من العمر، خاصة أن تجربة السفر التالية للتخرج والتى استنزفت العقد الثانى ومازالت تستنزف العقد الثالث من عمرى قد شكلت وعيا جديدا ومختلفا لإسلامى، يمكن أن نطلق عليه «وعى الأقليات المسلمة»، ولهذا حديث آخر، لكن المهم ذكره هنا أن تشكيل الوعى الإسلامى فى تلك المرحلة من حياتى قد ارتبط بكتابات الشيخ حتى بعد وفاته وقد استمرت حتى اللحظة لكن بتقييمات مختلفة من جانبى.
•••
كانت صدمة متأخرة بعض الشىء أن أقرأ عن رأى الشيخ الغزالى وشهادته فى المحكمة بحق قضية اغتيال المفكر فرج فودة وهى فتوة دالة بشدة على أزمة علماء المسلمين الطاحنة مع معطيات الحياة المعاصرة لا فرق كبير فى ذلك بين الوسطى والمتزمت! وهو الأمر الذى يدفعنى بعد كل هذه السنوات لطرح هذا التساؤل البسيط، لماذا يفشل العلماء المسلمون (حتى الوسطيون منهم) فى التعامل مع الحق فى الحياة كحق مقدس لا يجوز نزعه من الإنسان هكذا ببساطة بلا محاكمات ولا مداولات وممن لا علاقة له بتنفيذ القانون؟
الحقيقة أن هذا التساؤل يجر عددا آخرا من القضايا الشائكة والتى مثلث الفشل الأكبر لتعامل هؤلاء العلماء مع معطيات وتطورات العصر الحديث، ولعل أهمها قضايا الدولة القومية وموقع «الأمة» ودولة الخلافة الإسلامية وإنفاذ القانون وموقف الشريعة الإسلامية وقضايا المواطنة والحقوق والحريات بشكل عام.
تجرنا هذه الأسئلة بدورها إلى تساؤل كبير مهم، هل الفروق بين العلماء المسلمين المتزمتين والوسطيين (على عمومية هذه الأوصاف)، هى فروق فى المنهج أم مجرد فروق فى طريقة الطرح؟ بعبارة أخرى هل ما يجعلنا نعتقد أن الشيخ الفلانى «وسطى»، هو طريقته الوسطية الحانية الهادئة فى طرح قضاياه أم منهجه المختلف فى طرح هذه القضايا؟
إجابة هذا التساؤل ليست سهلة ومليئة بالتعقيدات، ففى حالة الشيخ الغزالى، فقد كان طرحه وسطيا ولغته مبهرة فى سلاستها وكذلك منهجه النقدى المنفتح كان مختلفا، لكن مع أولى محطات الاصطدام بالواقع فقد سقط فى الاختبار بشدة، وسقطت معه أطروحات الوسطية والتسامح، فكيف حدث هذا ولماذا على هذا النحو المؤسف؟ أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة فى مجموعة مقالات متصلة أو منفصلة بحسب ما تسمح به مساحة النشر وظروفه محاولا تحديد الطريقة التى تحدث بها الإسلام إلى المسلم المعاصر ومدى مسئولية كل ذلك عن أزمة الوعى المعاصر لدى المسلمين.