فى بيان مفاجئ، أعلنت كل من السعودية وإيران يوم الجمعة ١٠ مارس توصلهما لاتفاق يقضى بإعادة العلاقات الدبلوماسية التى انقطعت منذ سبع سنوات تبعها تدهور كبير فى العلاقات الملتهبة بطبيعتها بين البلدين منذ قيام الثورة الإسلامية فى إيران عام ١٩٧٩. أكد البيان على أن العلاقات ستعود فى غضون شهرين وأن ذلك سيتزامن مع إحياء بعض الاتفاقات التجارية والأمنية الموقعة بين البلدين مسبقا ولاسيما ذلك الاتفاق الأمنى الذى سقط سهوا من التاريخ رغم أهميته، وهو اتفاق يقضى بتعاون وتنسيق أمنى كامل بين البلدين مع ترتيب بعض الأوضاع الأمنية فى دول الجوار (ولاسيما أفغانستان) ! تم توقيع هذا الاتفاق فى أبريل عام ٢٠٠١ لكنه انتهى عمليا بعد وقوع هجمات الحادى عشر من سبتمبر فى نفس العام وتغير الظروف الإقليمية لسنوات طويلة بعد ذلك إلى أن عاد الحديث عنه الآن!
هناك أسئلة كثيرة يطرحها هذا البيان الذى وصف بالمفاجئ، أولها هل هو مفاجئ بالفعل؟ وثانيها هل هذا الاتفاق سيصمد كثيرا؟ وهل هو مناورة سعودية أم أنه توجه استراتيجى جديد فى سياسة المملكة الخارجية؟ ثم هناك سؤال آخر متعلق بالكيفية التى قد يؤثر بها هذا الاتفاق على الشرق الأوسط وخصوصا تأثيره المحتمل على الحرب فى اليمن والموقف فى سوريا، والعلاقات الخليجية الإسرائيلية، بل وتأثيره على العلاقات الإماراتية ــ السعودية وغيرها من الأسئلة التى تحتاج إلى الكثير من الكتابة والمتابعة، بل والوقت للإجابة عليها بشكل دقيق، لكن هناك سؤالا آخر لا يحظى بنفس الدرجة من الأهمية فى النقاشات فى المنطقة العربية، ألا وهو لماذا الصين؟ لماذا الصين التى لطالما فضلت لسنوات فى سياستها الخارجية فى منطقة الشرق الأوسط التركيز على الأبعاد الاقتصادية وإعطاء اهتمام بين ضعيف ومتوسط للأبعاد السياسية، هى التى تقوم بالوساطة بين القوتين الإسلاميتين الأهم فى المنطقة؟
لم يفطن البعض إلى أن الإعلان عن هذا التقارب تم من بكين وبرعاية كاملة من العملاق الآسيوى بعد استضافة وفدى البلدين لأيام بشكل غير معلن لعدة أيام قبل التوصل للاتفاق! بل وقد تم التوصل لهذا الاتفاق فى وقت تعجز فيه الولايات المتحدة عن إبرام اتفاق نووى مع إيران وعد به بايدن فى حملته الانتخابية، وفى ذروة تدهور العلاقات الأمريكية ــ الصينية، بل وفى ظل برود لا يخطئ فى رصده أى متابع ومتابِعة للعلاقات السعودية / الأمريكية فى الآونة الأخيرة، كما يأتى الإعلان الصينى عن هذا الاتفاق فى نفس توقيت حصول الزعيم الصينى شى جين بينج على فترة رئاسية ثالثة بعد أن تمكن الرجل الأقوى فى تاريخ الصين الشيوعية منذ ماو تسى تونج من إزالة كل العوائق الدستورية التى كانت تضع قيودا على فترات الرئاسة الصينية!
• • •
رد الفعل الأمريكى كان مثيرا للتعاطف والأسى ودليلا على تعثر ليس بالجديد للدبلوماسية الأمريكية فى الشرق الأوسط، حيث حاول المتحدث باسم مجلس الأمن القومى الترحيب بالاتفاق طالما أنه يدعم الاستقرار فى الشرق الأوسط ولكنه كان حريصا فى الوقت نفسه التأكيد على أن الدبلوماسيين السعوديين «أحاطوه علما» بالمحادثات مع الجانب الإيرانى ولكنه عاد ليعترف بأن الولايات المتحدة لم تنخرط بأى شكل فى المحادثات التى قادت إلى هذا الاتفاق!
وصف أحد الدبلوماسيين الأمريكيين المتقاعدين الاتفاق بأنه إشارة إلى فشل بايدن فى إدارة ملفات الشرق الأوسط وهو فشل لا يتحمله بايدن وحده، ولكنه فشل متأصل فى العقلية الأمريكية لصناع القرار فى تصوراتهم عن حدود قدرات الدول العربية الشرق أوسطية ولا سيما السعودية على المناورة الخارجية وهو عجز دبلوماسى مستمر منذ القرار السعودى الأبرز فى ١٩٧٣ بتخفيض إنتاج النفط عموما ووقفه تماما عن الولايات المتحدة الأمر الذى لم تتوقعه واشنطن التى ظنت أن السعودية حليف أليف وهو ما تسبب فى صدمة البترول الأولى! لكن نعود للسؤال الرئيسى لهذا المقال لماذا الصين؟
المتابع عن كثب للشأن الصينى يستطيع أن يرى بوضوح التحولات الهامة فى السياسة الخارجية الصينية والتى أصبحت لا تكتفى بالاعتماد على المرتكز الاقتصادى، ولكنها قررت بوعى تام من الزعيم الصينى استخدام الأوراق السياسية والدبلوماسية للعب دور سياسى عالمى أكثر نشاطا مستغلة العثرات الواضحة فى السياسة الخارجية الأمريكية التى تعانى أيضا من دفع ثمن الاستقطابات الداخلية الحادة بين الحزبين الديموقراطى والجمهورى!
حينما زار الرئيس بايدن السعودية فى محاولة لإقناعها بزيادة ضخ النفط العام الماضى أملا فى التعاطى مع أزمة أسعار الطاقة التى خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، فإنه عاد إلى واشنطن بخفى حنين، حيث خفضت السعودية الإنتاج، بل وحرصت على التقارب بشكل أكبر مع روسيا غير عابئة بأى ردود فعل أمريكية، لكن وبعد ثلاثة أشهر فقط من زيارة الرئيس الصينى للرياض، فها هو اتفاق بهذا الحجم يتم توقيعه!
باختصار يمكن القول إنه وبهذه الوساطة الصينية بين السعودية وإيران وبغض النظر عن مدى صمود الاتفاق نفسه من عدمه، وبغض النظر أيضا عما إذا كان هذا الإعلان هو مجرد مناورة سعودية لتوجيه ضربة قوية لإدارة بايدن بعد موقف الأخيرة من ملف حقوق الإنسان فى المملكة على خلفية قضية مقتل خاشقجى، فإن المؤكد أنه وبعد الإعلان فإن الصين تحاول تدشين مرتكز سياسى ودبلوماسى لسياستها الخارجية فى منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر يجب أن نفهمه فى سياق أوسع يتجه فيه النظام العالمى إلى المزيد من الاحتقان وسياسة المعسكرات العالمية التى تشبه مرحلة الحرب الباردة وإن كانت لا تتطابق معها، فالصين لا تواجه الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط فقط ولكنها تواجهها فى شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ بل وفى شرق ووسط أوروبا بالإضافة قطعا إلى المواجهة التقليدية فى أفريقيا!
• • •
لكن هل تنجح الصين فى سحب البساط من الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط نحو تمهيد لقلب المعادلة الدولية بالأكمل بحيث تصبح الصين رسميا قطبا عالميا لتنهى سياسة القطبية الأحادية التى نعيش فيها منذ انهيار الاتحاد السوفيتى؟
الحقيقة أن الإجابة ليست سهلة كما أنها ليست متعلقة بظروف الصين فقط، ولكنها تتوقف أيضا على مدى قدرة اللاعبين الآخرين على الرد! باختصار فإن النجاح الصينى من عدمه سيعتمد على ستة عوامل رئيسية:
العامل الأول متعلق بالظروف الاقتصادية الداخلية للصين ومدى تحسنها وتعافيها من أزمة الوباء فهذا المحدد الاقتصادى هو الأهم فى سياسة الصين الخارجية!
أما العامل الثانى فمتعلق بمدى قدرة نجاح الزعيم الصينى على بسط سيطرة كاملة وطويلة ومحكمة على الحزب الشيوعى الصينى ولجانه المركزية، وقدرته أيضا على تحقيق رضا شعبى داخلى يبدو أنه تضاءل فى السنوات الأخيرة!
فيما يتمثل العامل الثالث فى عدم تورط الصين فى فعل عسكرى متهور قد يورطها كما ورط روسيا حاليا وأعنى هنا احتمال إقدام الصين على مغامرة عسكرية غير مأمونة العواقب فى تايوان.
أما العامل الرابع فيتمثل فى مدى قدرة الصين على تحييد دول الاتحاد الأوروبى (التى تتقاطع معظمها مع حلف الناتو) عن هذا الصراع مع الولايات المتحدة وهو ورقة تسعى الصين بالفعل إلى استخدامها وقد يكون لها حديث لاحق.
أما العامل الخامس فيتمثل فى مدى تمكن الصين من اكتساب المزيد من الحلفاء فى الشرق الأوسط، ولا أتحدث عن مجرد تحالفات دبلوماسية عادية فالصين تتمتع بعلاقات مميزة مع معظم دول المنطقة، ولكنى أتحدث عن أن تقوم دول الشرق الأوسط بوضوح بإعطاء الأولوية للشراكة الاستراتيجية مع الصين على حساب الولايات المتحدة كما تفعل السعودية الآن!
فيما يتمثل العامل السادس والأخير المحدد لمدى نجاح السياسة الخارجية الصينية هذه فى الكيفية التى ستتصرف بها الولايات المتحدة فى مواجهة صراعاتها الداخلية وعثراتها الدبلوماسية المتتالية!
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.