لأسباب خارجة عن إرادتى لم أتمكن من حضور احتفالية بيت الشعر المصرى بالشاعر الرائد صلاح عبد الصبور (1931 ــ 1981)، لكن الأسماء الكبيرة التى شاركت فى إحياء ذكراه وتقدمها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى والنقاد: أحمد مجاهد وفاطمة الصعيدى وعمر شهريار إلى جانب الممثل الكبير محمود حميدة ساهمت كثيرا فى إنصاف الشاعر الذى كتبت مرارا، مؤكدا أنه لم ينل ما يستحق من اهتمام رغم دوره الرائد.
مات صلاح عبد الصبور ميتة مشؤمة اتخذت طابع الأمثولة التى يعاد إنتاجها مع كل رواية، يضاف إليها ويستبعد منها بحسب إرادة الراوى، وانحيازاته وبحسب قدرته على جمع الخيوط، وبعيدا عن الأسباب التى تطل برأسها فى كل حكاية فإن ما لا يختلف عليه أبدا هو القيمة المتفردة لصلاح عبد الصبور الذى عاش حياة قصيرة لكنها امتلأت بكل صنوف العطاء.
ومثل كل شاعر فذ سيمتد أثره إلى المستقبل وكما يقول شكسبير فى واحدة من سوناتاته (ما دامت هناك أنفاس سيقى هذا الشعر حيا، تولد لك فيه حياة أخرى)، يصمد صلاح عبد الصبور أكثر من غيره مع كل قراءة، ويعاد اكتشاف ثقافته العميقة فى كل جملة كتبها، وأعود شخصيا فى مناسبات كثيرة لقراءة المجلدات التى جمعها بكفاءة بالغة الأستاذ أحمد صليحة وأتأمل العطاء الفريد والمتنوع للراحل العظيم، فقد كان كاتبا صحفيا ومترجما ومسرحيا فذا غزير الإنتاج على نحو يؤكد أنه كان يشعر دائما بقصر عمره لذلك حرص على الجرى لأطول فترة ممكنة وربما لم يتوقف أبدا.
يظل عبد الصبور هو الشاعر الذى فتحنا هداياه بعد المغادرة كما قال لى الشاعر البحرينى الكبير قاسم حداد ، بل إن أدونيس وهو صاحب مشروع شعرى مختلف أكد لى ذات حوار أن صلاح عبد الصبور يستحق منا قراءة لا تتوقف ومكانة لا يحظى بها أحد.
يتفق الشعراء المصريون والعرب على الدور الطليعى لعبد الصبور، ويؤكدون فى كل مناسبة موقعه الريادى، إلا أن الوقائع على الأرض تقول إنه لم ينل التكريم الذى يليق به، كما أنه تعرض لتغييب متعمد، رغم أنه شغل مواقع مؤثرة داخل المؤسسات الثقافية الرسمية.
صحيح أن الناقد الراحل جابر عصفور وكان قريبا منه خلال سنواته الأخيرة عمل جاهدا على استعادة ذكرى عبد الصبور وتجديد ذكراه داخل وزارة الثقافة، كما كتب عنه كتابين كاملين أبرز فيهما القيمة الفنية لشعره، وأتيح شعره فى طبعات جديدة، لكن كل هذا لم يسهم فى تكريسه بطريقة ترفع عنه ستائر النسيان، وبالإضافة إلى أسباب التغييب الذى تعد سمة جوهرية فى الحياة الثقافية المصرية فإن شعر عبد الصبور ينطوى على كثير من القيم والمعانى الرمزية التى لا تمنح أسراره بسهولة، فهو ليس شاعرا شعبيا يمكن تعبئة معانيه فى كبسولة تصلح للاستعمال السريع عبر مواقع التواصل الاجتماعى، فهو كما يوضح الناقد الكبير محمد بدوى سعى نحو كتابة شعر له طابع ميتافيزيقى، وخلق ما يسمى «الفقد الشعرى» وأصبح منتجا للأفكار التى تعنى بالوجود البشرى ولا ترصد حالة بعينها، كما ذهب بالشعر إلى فضاء لم يعهده القراء، فأصبح شاعرًا يعبر عن نفسه فى زمن كان خيار الأصوات الشعرية الأخرى «التعبير عن الجماعة»، والتماهى معها بمواكبة الأحداث اليومية والتعليق عليها، حيث التطابق بين الذات الشاعرة وأنا الجماعة، بينما كانت الأنا الشاعرة لديه «أنا» متعالية بالمعنى الشعرى والفلسفى.
اقرأ ما كتبه بدوى وهو أحد المولعين بشعر عبد الصبور ومن أوائل دارسى تجربته وأتساءل: ألهذا السبب تتجنب الذائقة العمومية شعر عبد الصبور أم لأنه ينتج ما يسميه أدونيس شعرية (الكآبة) التى تثقل القلب بالسؤال؟
ومهما تكن الإجابة فإن الشىء الذى يصعب تجاهله أن هناك ما يشبه الإصرار المتعمد على نسيان صلاح عبد الصبور؟
وانظر حولك فى محافظات مصر كلها وأراهنك إذا وجدت شارعا واحدا باسم صلاح عبد الصبور بينما يوجد لدينا شارع فى الإسكندرية باسم شاعر اسمه (الشاب الظريف) وأنا أعلم أنه شاعر عاش أواخر العصر العباسى لكن لا أعلم ما الدافع وراء تسمية شارع باسمه، كما لا أفهم لماذا لم تطلق مصر جائزة أدبية حقيقية ذات قيمة مالية ومعنوية تحمل اسم صلاح عبد الصبور تساهم فى تعزيز حضوره فى الفضاء العام؟