فى عام 2008 لم يكن انهيار مصرف «ليمان براذرز» مجرد حدث مالى عابر، بل كان لحظة انكشاف كبرى لنظام بكامله. فجأة، وجد العالم نفسه أمام مرآة تكشف هشاشة ما كان يظنه متينًا فى الثقة الكبيرة التى وضعها فى النظام الرأسمالى الحديث. كان المشهد استثنائيًا. لم يسقط «ليمان براذرز» فحسب، بل انهار معه إيمانٌ عمره قرنان بأن السوق قادرٌ على تصحيح نفسه، واكتشفنا كيف اختفت فجأة اليد الخفية التى لطالما قال المفكر الاقتصادى آدم سميث إنها ما تزال تحكم التوازن بين الطموح والعدالة. وحين مدّت واشنطن يدها للتدارك، لم تفعل ذلك باسم الاشتراكية، بل باسم "الإنقاذ الوطني" فى أكبر عملية تأميم عرفها التاريخ الحديث. هكذا أنقذت الحكومة الأمريكية النظام من نفسه، فى مفارقة كسرت القوالب كلها: الدولة التى بدت كأنها وُجدت لتحمى حرية السوق أصبحت مسئولة عن بقاء الدولة فى تلك اللحظة.
هذا الاستحضار لأكبر عملية تأميم فى التاريخ يطرح نفسه أمام أحداث اليوم. وقف إطلاق النار فى غزة، بإرادة أمريكية ودولية وإقليمية، يضعنا أمام مرآة لمآل عقلٍ غربيٍّ سياسيٍّ متأزم. منذ السابع من أكتوبر 2023، تغيّر شيء عميق جدًا. وكما فى عام 2008 لم يكن السؤال: هل انهار النظام المصرفى؟ بل: هل ما زال النظام الرأسمالى نفسه قابلًا للحياة؟ كذلك اليوم، هل قوة «العم سام» فى انحدار؟ أم أن قوة «العم سام» لم تعد كما عهدناها؟ فالولايات المتحدة التى أنقذت مصارفها بأموال الضرائب باتت اليوم تخوض حروبها واقتصادها بالدَّين لا بالنقد. إنها تحارب عبر الوعود، وتشترى المستقبل بمالٍ لم يُنتج بعد. ومع تضخم الدين الأمريكى بدأت الحقيقة المؤجلة تظهر: أمريكا تملك اقتصادًا متينًا بقدر ما تملك ثقة، وكلما اهتزت تلك الثقة اهتز معها العالم كله.
الواقع يقول إننا أمام انهيار متعدد الطبقات يشمل النظام السياسى والأخلاقى الدولى الذى وُلد من رحم الحرب العالمية الثانية. النظام الذى بشّر بعصر الديمقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق الحر يتهاوى أمام أعيننا دفعة واحدة. من أوروبا إلى واشنطن تتصاعد لغة اليمين المتطرف بمفرداته وسلوكياته النافرة. تتآكل الثقة بالمؤسسات الدولية ويتراجع الإيمان بفكرة القيادة العالمية التى كانت تُبرِّر للغرب تفوقه الأخلاقى والاقتصادى. تآكلت شرعية النموذج الليبرالى كما تآكلت عملاته، وصارت الشعارات القديمة كالحرية والعدالة والرخاء مجرد صدى لعالم يمضى.
لقد كانت منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية وعدًا مزدوجًا: التقدم الاقتصادى يقود إلى السلام الحقيقى، والديمقراطية تقود إلى العدالة. لكن الواقع أثبت العكس. المال تضخّم حتى ابتلع السياسة. والسياسة لم تعد قيمًا تحكم العلاقات بين الأمم، بل تحولت إلى حفلة علاقات عامة وإدارة تقنية لأزمة هنا أو هناك. صار القرار الاقتصادى أكبر من الدولة وأصغر من حقوق الإنسان. صار الإنسان نفسه رقمًا فى معادلة لا يديرها. ومع هذا التبدل انهارت منظومة الأخلاق التى ربطت بين الثروة والمسئولية، بين الحقوق والواجبات. أصبح كل شيء يُقاس بمعيار المصلحة والقوة. لكأن جميع القواعد المؤسِّسة للعقل السياسى الغربى رُميت فى سلة المهملات، وتحديدًا اتفاقية وستفاليا عام 1648 التى أسّست لفكرة سيادة الدول (ولمحبّى اتفاقية سايكس بيكو، فهى أيضًا تعرّضت لتجاوز رغم أنها فى أصلها اتفاقية أمنية بين فرنسا وبريطانيا). هذا فى الشكل، أما فى المضمون فالمشكلة أكبر.. لماذا؟
• • •
منذ منتصف القرن العشرين بنت المنظومة الغربية نظامها على فكرة التوازن: توازن القوى، توازن الأسواق، توازن الردع. لكننا اليوم نعيش زمن اللا ارتكاز حيث لا نظام يستقرّ ولا بديل يتشكّل. العالم يقف بين نظام قديم يحتضر وآخر لم يُولد بعد. وفى تلك المنطقة الرمادية تتكاثر الحروب وتتعاظم العصبيات القومية وتتراجع الثقة بالعقل. المال فقد معناه، والسياسة فقدت غايتها، والأخلاق فقدت مرجعيتها، ألا وهى الدولة. كأن الغرب يعيش على أنقاض ثلاثة انهيارات متزامنة: انهيار الرأسمالية المالية، وانهيار الديمقراطية الليبرالية، وانهيار المؤسسات الدولية التى كانت تربط بينهما. ومعها نشهد انهيار الخطاب السياسى الرصين؛ الخطاب الذى يوازن بين السياسة والشعبوية، ولكنه فى النهاية ينحاز للقيم لا للمصالح.
الأخلاق التى انهارت ليست فردية فحسب، بل ثمة انهيارٌ للأخلاق التى صاغت معنى العدالة الدولية. فحين تتخلى الدول الغربية الكبرى عن التزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب، وتُصبح حقوق الإنسان أداة تفاوض، يُصبح الانهيار الأخلاقى مسألة بنيوية لا ظرفية. المجتمع بلا أخلاق يتحول إلى سوق مفتوحة للغرائز. المال وحده لم يكن كافيًا لصنع حضارة. والسياسة بلا مؤسسات تصبح إرهابًا مقنّعًا. السياسة فنّ إدارة المصالح وتوازن القوى داخل الدولة وفيما بينها، من خلال اتخاذ قرارات تنظم السلطة والموارد. غير أن السياسة وحدها لم تكن قادرة على إدارة العالم، فكانت الأخلاق هى الجسر بينهما. وحين تصدّع هذا الجسر، صار العالم نهرًا من المصالح العمياء لا أحد يعرف أين منبعه وأين مصبّه.
يسرى ذلك على الاقتصاد. الاقتصاد بلا أخلاق يصبح مقامرة. إننا نعيش زمن العولمة بلا روح، وزمن الوفرة بلا معنى. قد يقول البعض إن هذا التشخيص يندرج فى سياق الفكر اليسارى، وهذا غير دقيق. نحن أمام لحظةٍ تاريخيةٍ تشبه لحظة الانهيار الأخلاقى الذى رافق انهيار الاتحاد السوفيتى ومعه اليسار العالمى. هو فى جوهره دعوة لإعادة اكتشاف الإنسان وسط ركام السوق والسياسة. فحين يصبح الربح هدفًا، تُمحى الأسئلة الكبرى وتُستبدل القضايا بالقيل والقال وتسالى العالم الافتراضى.
̉• • •
إن القوة بلا حكمة تنقلب على صاحبها، وربما يكون هذا هو الدرس الأخير للعقل الغربي: أنه قادرٌ على إنتاج كل شيء إلا المعنى. إن ما نراه اليوم فى غزة ليس مجرد أزمة إنسانية أو أخلاقية، بل هو أوضح تعبير عن أزمة وجودية لا تخص شعبًا وأرضًا بل أزمة نظام دولى فقد روحه. الرأسمالية التى ولدت بعد الحرب العالمية الثانية ومعها وعد الرخاء والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان هى المسئول الأول عمّا يجرى فى غزة، وعمّا يُمكن أن يجرى فى أى مكان آخر فى العالم، ولو اختلفت المسميات.
لقد صار المال صورة بلا أصل، والسياسة إدارة بلا بوصلة، والإنسان فردًا بلا انتماء. وكل ذلك لم يحدث دفعة واحدة، بل عبر قرن من التراكمات التى جعلت الربح معيارًا للنجاح، والهيمنة شكلًا من أشكال الفضيلة.
هل هذه النظرة محكومة بأفق مسدود؟ ربما تكون المرحلة المقبلة، فى ضوء ما نشهده من فوضى فى العالم، بداية إعادة اكتشاف القيم. فالعالم الذى انهار بالمال والسياسة والأخلاق لن يُبنى من جديد إلا بالتوازن؛ توازن يُعيد الإنسان إلى مركز الفعل والمعنى. حين يصبح الإنسان - وإذا أردتَ ضع القوة معه - مقياسًا لكل شىء، يمكن أن يبدأ ترميم العقل الغربى مجددًا، وما عدا ذلك سقوط فى فخ غواية القوة.
بين انهيار «ليمان براذرز» وأحداث غزة أقل من عشرين سنة. لو كان كارل ماركس حيًّا لأطلق ضحكة، وهو صاحب العبارة الشهيرة: «إن التاريخ يُعيد نفسه، المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمهزلة». ها هى تناقضات النظام الرأسمالى تنفجر من داخله. أما آدم سميث الذى آمن بأن السوق كيان أخلاقى، فله أن يتأمل مشهد تحكم خوارزميات الذكاء الاصطناعى بالقرار البشرى، وكيف تحولت الثقة من قيمة إنسانية إلى معادلة رقمية.
كاتب سعودى