أحب كتابات عدنية شبلى، لا أتحدث فقط عن الهمّ الفلسطينى الذى يشغلها أينما كانت، باعتبارها ابنة الوطن المأزوم والمسلوب والمحاصر، ولكنى أتحدث أيضًا، وبالأساس، عن طريقتها السردية البارعة، بالالتفات المدهش إلى التفاصيل، والنسج البارع لخيوط الكلمات والعبارات، وعبر المجازات وألوان الانفعالات والمشاعر.
ارتبطت شهرة عدنية بروايتها «تفصيل ثانوى» التى رُشّحت ترجمتها الإنجليزية لجائزة البوكر الدولية، وحصلت ترجمتها الألمانية على جائزة الجمعية الأدبية الألمانية. وفى أكتوبر 2023، ألغى معرض فرانكفورت حفل تكريم عدنية وتسليمها هذه الجائزة، رضوخًا لضغوط إسرائيلية بعد حرب غزة، ما أثار احتجاج نحو ألف كاتب عالمى على هذا الموقف المنحاز.
الرواية التى تستعيد حادث اغتصاب فتاة فلسطينية عام 1949، لم تكن الأولى اللافتة إلى موهبة عدنية، إذ قدّمت من قبل عملين مميّزين، هما «مساس» و«بعيد بذات المقدار عن الحب». ولكنى اخترت أن أكتب لكم عن كتابها البديع الصادر عن دار ميريت عام 2021 بعنوان «إيحاءات واهنة بالطمأنينة»، المتضمّن قصصًا ونصوصًا تترجم حساسية الكاتبة الفائقة، حتى وهى تتناول أكثر الأحداث عاديةً وتكرارًا، ويتجسد فى هذا الكتاب أيضًا ذلك المزيج بين الخاص والعام، عبر أدوات الفن وألعابه الماكرة.
بعض النصوص تمثل قصصًا قصيرة ناضجة، وبعضها أقرب إلى «اليوميات»، وبعضها الآخر مقالات قصيرة أو طويلة، إلا أنها جميعًا تنتمى إلى ذلك «السرد الفنى الرفيع»، الذى يستعين أحيانًا بكثافة لغة الشعر ودلالات المجاز. وفى كل الأحوال تحضر ذات الكاتبة، وتذوب الفوارق بين واقعها وخيالها، ويتحقق التأثير القوى عبر إدخال القارئ فى التجربة مكانًا وزمانًا، وصوتًا وصورة، مع انتقالاتٍ لا تتوقف بين الخارج والداخل؛ أى بين واقع الشخصية الموضوعى وواقعها النفسى والوجدانى.
هنا تتجلّى موهبة الالتقاط والتحليل والتعبير المرهف معًا، ولا فرق فى الاعتناء والإجادة بين وصف لحظة حب، أو لحظة تفتيش أمام حاجز أمنى. هى الأدوات نفسها لذات يقِظة مرهفة، تحاول أن تحقق توازنها الخاص، وأن تنجو بإنسانيتها المهددة، وأن تجد ولو مجرد «إيحاءات واهنة بالطمأنينة».
فى «صمت الصورة»، تستدعى الكاتبة صورة فوتوغرافية فى معرض، وما وراء هذه الصورة من ذكرى عاطفية، فتتجاوز الكادر المصوَّر لتصل إلى حجرة كانت تلتقى فيها حبيبها، بينما ينشغل زوار المعرض بصور أخرى أكثر إثارة، وهى وحدها تسمع الصمت، وترى الحكاية التى تخصها.
وفى «ليحفظ الله الحب فى مكان جاف وبارد» تلتقط عدنية تلك اللحظات الفاترة فى حياة زوجين، عندما يسود العادى والمألوف، وتصبح الكلمات فارغة المعنى، وتختل مقادير الحب بين الطرفين. وفى «أفضل فراشات وأفضل هليكوبترات لعام 2000» مقارنة غريبة يفرضها تغيّر الأمكنة بين رقة الفراشة وضجيج الطائرات العسكرية فى سماء الوطن، وعبر هذا الجدل نقرأ «يوميات» قصيرة عميقة المعنى وباذخة الشاعرية.
فى «فطر يذبل فى ثلاجتى» تقتنى الساردة علبة من الفطر لا تحتاجها، تفكر أن تستخدمها فى طعام تدعو إليه من تعرفهم، لكن أحدًا لا يستجيب لأسباب مختلفة، فيصبح ذبول الفطر فى الثلاجة عنوانًا على الوحدة والفشل، وربما على عبث اقتناء ما لا نحتاج تحت ضغط الملل.
وفى «نعى أستاذ فاضل من حى الأرمن» تؤدى وفاة معلّم وجار معروف فى حى الأرمن إلى اكتشاف ألوان من الشخصيات الأرمنية التى تجمعها الجنازة؛ حياة حافلة بالتناقضات تخرج من قلب الموت.
فى قصة «بدون ماء» رجل زائد عن الحاجة مثل أبطال تشيخوف، وحيد فى الحانة، وعاطل تعوله زوجته، والآن يعود إلى بيته متخبطًا باحثًا عن رشفة ماء. وفى قصة «بدون أغصان» مواجهة واختبار بين ساكن المنزل الدافئ، الباحث عن تاريخ العبودية، وبين صبى متشرد ينظر إليه من وراء النافذة الزجاجية، إنه الآخر كما يبدو أمامنا، وليس على الورق.
فى «بدون تنوين فتح» مجاز جديد عبر اختيار كلمات تجمع طرفين تفككت بينهما الروابط، فهل تفلح اللغة وكلمات تنوين الفتح فى تجميع ما بدّده الفتور وأفسده الملل؟
وفى «درس فى رقص التانجو» تستدعى عدنية ذكرى لقائها مع الشاعرة فدوى طوقان، وأبيات حب أخيرة للشاعرة، لكى تتأمل عاطفة الحب المراوغة وعواطفها الخاصة. تعود الكاتبة دومًا إلى الذات خارج الوطن وداخله.
فى مقال «الفارق الوحيد هو نجيب محفوظ» تتحول مؤلفات محفوظ، وشغف والدها وأخوتها بقراءته، إلى بوابة مفتوحة على العائلة، وعلى سنوات الاكتشاف والنضج، وعلى علاقة عدنية بالأسرة وبالأدب، ثم تقرأ محفوظ أخيرًا بعد طول ابتعاد ورفض، فتتصالح مع أشياء كثيرة، ويصبح محفوظ ومؤلفاته جزءًا من العائلة، ويستحق أن تعزّى والدها فيه.
وهذا بورتريه إنسانى بعنوان «لون الرماد الذى فى عينى جدتى»، يبدأ بوصف سيدة حادة منعزلة، لا تبتسم، ولا ترد التحية، ولا تحكى الحواديت لحفيدتها، وتنتهى الحكاية وقد عرفت الحفيدة أخيرًا سر الحزن والمأساة، بعد أن فقدت الجدة زوجها الأحب الذى قُتل فى معركة الشجرة عام 1948، ليترجم هذا الرماد فى عينيها تاريخها وتاريخ الوطن معًا.
يحضر الوطن طيفًا وواقعًا وحلمًا وكابوسًا، وبتنويعات شتى: فى «خارج الوقت» تحكى عدنية عن ساعتها التى تتغيّر بين خارج الوطن وداخله، والتى تتوقف عن الحركة تمامًا فى لحظات التفتيش، وكأنها تحذف تلك الفترة الزمنية من العمر. وفى «إيحاءات واهنة بالطمأنينة» ذات مأزومة وسط حرب وتفجيرات عام 2002، وهى الذات نفسها المصدومة فى «بدم بارد» بعد قراءة خبر مقتل شاب فى السابعة عشرة، وهو يعبر السياج من غزة إلى الضفة بحثًا عن عمل.
وفى «غبار» و«التحليق بعيدًا» تتمزق الذات أكثر، باحثة عن مرفأ، فلا هى خارج الأزمة، ولا هى جزء منها، ويتصاعد كابوس صوت الكلب الباكى.
تكتب عدنية عن امرأة يهودية تجاهلتها:
«أنا لم أكن أطالبها بدولة مستقلة عاصمتها القدس، كنت فقط أحاول معرفة مكان الكلب الباكى».