تقول الأسطورة إن السلحفاة كانت تحمل العالم على ظهرها. والصينيون القدماء كانوا يعتبرونها رمزا للحكمة والبقاء، بل ذهبت الفلسفة الطاوية التى تقوم على العيش فى انسجام مع الطبيعة إلى عدِها مع التنين والعنقاء وأحادى القرن (أو الكيرين الخرافى) ضمن الحيوانات السماوية. وعلى ما يبدو ما زلنا لا نعلم الكثير عن أسرار السلحفاة، فالسائد مثلًا أنها تختبئ فى جوف صدفتها وتسحب رقبتها بشكل عمودى أو أفقى للداخل أو إلى الجنب بحسب الفصيلة التى تنتمى إليها لكى تحمى نفسها من الخطر، ولكن اكتشف العلماء أخيرا أنها وسيلة فعالة تستخدمها أيضا للتمويه والصيد، خاصة السلحفاة المائية التى تظل ساكنة فى البحر وحين تقترب منها سمكة صغيرة تدفع رأسها إلى الأمام وتفتح فمها وتقتنص فريستها. تأخذ نفسًا عميقًا وتملأ جسمها بالهواء الذى يمكنها من المكوث فترات طويلة تحت الماء.
• • •
نحتاج كبشر أن نلجأ للحركة نفسها من وقت إلى آخر كى نعتزل العالم قليلًا أو نتربص فى انتظار وقوع شر ما للأعداء، فنحن والحيوانات نتشابه فى أمور مختلفة أحيانًا. وقد صار الكثيرون بيننا يحملون رقبة سلحفاة على أكتافهم تحت تأثير التكنولوجيا فيما يُعرف بمتلازمة عنق النص الناتجة عن انحناء الرأس لفترات طويلة عند استخدام الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر. الأطباء يحذرون من هذه الظاهرة المتزايدة ويؤكدون أنها التهديد الصامت للأجيال الجديدة، إذا لم نسارع بتغيير نمط حياتنا وطريقة جلوسنا أمام الشاشات. نثنى رقبتنا إلى الأمام مثل السلحفاة لذا أطلقوا عليها أيضًا متلازمة السلحفاة، نقلد حركتها دون أن نلاحظ ذلك ودون أن نحظى بفرصتها فى العيش ببطء ولا بطول النفس الذى يسمح لها بالتأقلم.
فى الثالث من أبريل عام 1973، أجرى المهندس الأمريكى مارتين كوبر، أحد العاملين بشركة موتورولا، أول مكالمة هاتفية بواسطة تليفون محمول، ومن ساعتها استمر تطوره التقنى بوتيرة هى الأسرع بين الوسائل التكنولوجية الأخرى. وقد تعدى عدد اتصالات الهواتف النقالة حول العالم عشرة مليارات أى أكثر من عدد سكان الكوكب الذى سيبلغ 8.2 مليار نسمة بحلول نهاية 2025. وتوضح الدراسات التى أجريت حديثًا أن 84% من الناس يمتلكون هاتفًا محمولًا، ويقضى هؤلاء حوالى ثلاث ساعات واثنين وعشرين دقيقة على الإنترنت من خلال الهواتف الذكية، وهو ما يسمى بالإنجليزية (SMOMBIE) اختصارًا لـ(smart phone zombie) على شاكلة الزومبى أو الأموات الأحياء الذين يهاجمون البشر فى الفولكلور وأفلام الرعب، فى إشارة إلى أن الأشخاص الملتصقين بتليفوناتهم يبدون كمن فقد الإحساس ويتصرف بشكل آلى وخامل، لا يستطيعون العيش بدونها، ومن هنا ظهر مصطلح آخر، وهو (nomopobie) أو فوبيا العيش بلا تليفون.
• • •
الأبحاث لا تزال فى بدايتها ربما، لكننا نعلم بالفعل أن الهواتف المحمولة تقلل من قدرتنا على التركيز وتصيبنا بالأرق، وضوؤها الأزرق يؤثر على قرنية العين ويدفعها نحو التدمير الذاتى خاصة عند استخدامها فى الظلام، كما تضخم حجم الإبهام لدى بعض الناس مما قد يشير إلى التهاب فى المفصل أو الوتر. أما بالنسبة للرأس وهى الجزء الذى يخصنا حين نتحدث عن متلازمة «عنق السلحفاة» فيصل وزنها إلى 18 كيلوجرامًا عند انحنائها إلى الأمام 30 درجة، و27 كيلوجرامًا فى حال ثنيها 60 درجة إلى أسفل، فى حين يترواح وزنها الطبيعى بين 4 و5 كيلو حين تكون فى وضعية متوازنة. وهذا التحميل الإضافى على الرقبة يتسبب فى تصلبها والشعور بعدم الراحة وضيق الأعصاب وتقليل سعة الرئة وقدرتها على التنفس، إضافة إلى تشوهات فى العمود الفقرى وانزلاقات الغضاريف وآلام شديدة، فنذهب جميعًا لرؤية متخصص وينصحنا ببعض التمرينات البدنية أو عدم المكوث فى وضعية ثابتة مع ضرورة الحركة.
خلال سنوات سنجد أنفسنا محاطين بأصحاب «الأكتاف المستديرة» والأجسام المقوسة... ستشكل على الأرجح متلازمة «رقبة السلحفاة» ظاهرة بين البشر حتى صغار السن منهم. تطور أى نوع من المخلوقات لا يحدث دفعة واحدة، فهل نحن فى مرحلة وسيطة؟ هل ستغير اللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية من شكل أجسادنا على المدى الطويل؟ سنظل نحملق فى شاشتنا حتى ينسانا الدهر ونتعجب بعدها كيف صار الشجر مجرد أعمدة للأسلاك الكهربائية والأرض بغير عشب والفصول تشقلب حالها والبنى آدمين يسيرون بسرعة كبيرة ورقابهم تشبه سلاحف النينجا، دون امتلاك حكمتها.