(1)
أراقب بحماس شديد حالة الترقب المتفائل والمبتهج بقرب الاحتفال بافتتاح المتحف المصرى الكبير؛ ذلك الذى حلمنا به وبإتمامه ما يزيد على ربع قرن! المتحف الذى يليق بنا وبتاريخنا ومكانتنا، متحف يُشار إليه مثلما يُشار إلى اللوفر فى باريس، والمتحف البريطانى فى لندن، وغيرهما من المتاحف الكبرى والمشهورة والمعروفة فى العالم.
المتحف الكبير عندى، فضلًا عن وضعيته الكبيرة فى خريطة السياحة المصرية وما يُنتظر من عوائد نحن فى أمسّ الحاجة إليها لتدعيم الاقتصاد ومضاعفة الموارد، إلا أن الأهم والأبرز بالنسبة لى هو «رمزية» إعادة الاعتبار للحضارة المصرية القديمة؛ أعرق حضارات الدنيا وأقدمها، وما كُشف منها واستُدل عليه لا يتجاوز العشرين فى المائة مما لم يُكشف أو يُستدل عليه بعد!
قرابة نصف قرن وهذه الحضارة وتاريخها وآثارها، وكل ما يتصل بها من علامات ورموز، تتعرض لأبشع أنواع التشويه ، وكأنه أُريد للمصريين وأبنائهم وأحفادهم أن يتنصلوا من تاريخهم وحضارتهم القديمة، وأن يُرتهن بحثهم عن هويتهم وسؤال «من نحن» فى بُعد أو اثنين أو ثلاثة، مع إسقاط هذا التاريخ القديم بالكلية ووصمه بكل ما يُنفر منه، ويضعه فى قائمة المرفوض والمُبعَد والمُقصى!
(2)
فى الثمانينيات من القرن الماضى كنا نتعلم فى المدارس، وعلى ألسنة الأساتذة والمعلمين -للأسف- أنها حضارة أصنام وأوثان وشِرك! وأن كلمة «فرعون» لا تعنى أكثر من التفسير الدينى الضيق والمنغلق للنصوص والكتب المقدسة، وكلام كثير لا علاقة له بالتاريخ والعلم والآثار. كانوا يتحدثون عن «الفرعون» هكذا فى المطلق، ولا يعنيهم من يكون خوفو أو سيتى الأول أو تحتمس أو إخناتون أو رمسيس أو أحمس أو غيرهم من ملوك وحكام مصر العظام الذين يعرف قدرهم أبناء العالم كله إلا نحن!
لو راجعنا تاريخنا الثقافى والأدبى الحديث والمعاصر فى النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدًا منذ عام 1922 مع اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، سنجد حضورًا مُفتخَرًا وعظيمًا ورائعًا لهذه الحضارة فى أوساط الناس، وفى القاعدة الوسطى والصفوة معًا من المتعلمين والمثقفين.. إلخ؛ حضورًا تجلّى فى أعمال وكتابات وإبداعات وإنتاج فنى ومعرفى زاخر!
ثم لو راجعنا ما أصاب هذا الحضور منذ سبعينيات القرن الماضى، سنُفجع ونتحسر على ما أصابنا وأصاب الاعتزاز بمصريتنا وتاريخنا وحضارتنا، دون أى تعارض مع الانفتاح على غيرنا واحترامنا لكل آخر، وهو حق مشروع وأصيل لأبناء أى حضارة وثقافة فى العالم! لا أعلم ما وجه الغرابة فى هذا، وما وجه الاستهجان! هناك شعوب تبحث عن تاريخ لها، وهناك أمم تبحث عن جذور لها بين أبناء الأمم العريقة فلا تجد إلا الادعاء والتخييل! هؤلاء الذين يتبعون سياسة: إذا لم يكن لنا ماضٍ وتاريخ، فلنوجد نحن هذا التاريخ حتى لو بالاختلاق والكذب!
(3)
هذا الاحتفال المرتقب يُشكِّل مع الحدثين الكبيرين السابقين اللذين ملآ الدنيا وشغلا الناس وأثارا إعجاب الملايين فى كل الدنيا، وليس فى مصر فقط -أقصد موكب المومياوات العظيم وافتتاح طريق الكباش الأثرى بالأقصر قبل سنوات قليلة- أقول: تُشكِّل هذه الأحداث الثلاثة أكبر إعلان رسمى وشعبى وجماهيرى لإعادة الاعتبار إلى حضارتنا المصرية القديمة؛ حضارتنا التى جفّ ريقنا فى نفى كل الأكاذيب والمهاترات التى ترددت وتغلغلت طوال ما يزيد على خمسين سنة فى الطبقات الكثيفة من الشعب المصرى، وصولًا حتى إلى نخبته المتعلمة والمثقفة، بالخلط الفاحش بين المعرفى والعلمى والآثارى، وبين المُفبرك والمُختلق والخُرافى!
أما وقد أنعم الله علينا بهذا الماضى، وهذا التاريخ، وهذه الحضارة، فلماذا نقطع ما بيننا وبينها من معرفة وفهم واعتزاز؟! لماذا؟!
اليونانيون يعتزون بتاريخهم وحضارتهم أيما اعتزاز، والصينيون يتفاخرون فخرًا ما بعده فخر بحضارتهم الصينية العريقة، والإيرانيون يشمخون بانتسابهم إلى حضارتهم الفارسية العريقة.. فلماذا لا نعى أننا لا نقل أبدًا عن غيرنا من أبناء هذه الحضارات وهذه الثقافات وهذه الأمم!
(4)
عمومًا، أعود إلى حدث الاحتفال المرتقب الذى يستحق منا كل الدعم، وكل الابتهاج والفرح والافتخار، وأشير إلى رمزيته الكبيرة فى دائرة إعادة الاعتبار لحضارتنا القديمة بوعى معاصر، وبوعى مُسلّح بالعلم والمعرفة، وليس بالأساطير والمرويات الساذجة التى تُخيَّل على البسطاء من المصريين. وعى ينبغى أن يتجدد ويتسع ويتمدد، ويقوم على الأخذ بكل الأساليب العلمية الحديثة، وتوظيفها لاكتشاف ما لم نكتشفه بعد، ومعرفة ما جهلناه ونجهله من أسرار هذه الحضارة.
لو أحسنّا استثمار الأصداء الرائعة لهذه الأحداث الكبيرة، لقطعنا أشواطًا بعيدة فى تنمية الوعى التاريخى والمعرفى بالحضارة المصرية القديمة، وغيرها من الحضارات العظيمة التى تعاقبت على برّ مصر، والتى جرى طمسها عمدًا مع سبق الإصرار والترصد على يد التيارات الدينية المتطرفة، وبغَيبة وغفلة أجهزة الدولة لعقود طويلة.
نحن أمة عريقة ذات تاريخ وحضارة، وشأننا شأن كل أبناء الحضارات القديمة والعريقة نمرّ بكبوات وفترات تراجع وفتور، لكن لدينا ما نستطيع أن ننهض به ومن خلاله لنستعيد ما فقدناه من مكانة. (وللحديث بقية).