تحدثنا فى مقالين سابقين عن مدخلين رئيسيين لتكوين منهجية فكر وعمل متناسقة ومتكافلة من أجل بناء حداثتنا العربية الذاتية. المدخل الثالث المفصلى هو الانتقال الفعلى المتوازن إلى نظام ديموقراطى سياسى واقتصادى واجتماعى عادل.
فى أوج الحراك القومى العربى فى منتصف القرن الماضى ابتدع البعض شعار تأجيل موضوع الديموقراطية إلى حين الانتهاء من تحقيق الاستقلال الوطنى والقومى وبناء نوع من الوحدة العربية والوصول إلى نظام اقتصادى اشتراكى. دخلت الحركات والأحزاب القومية آنذاك فى هوس الدوران فى حلقة الأولويات وأعطيت مكانة الصدارة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
ولذلك دخلت العديد من الأقطار العربية الكبرى فى حلقة قبول الانقلابات العسكرية المتكررة باسم إعطاء الموضوع الفلسطينى الأهمية الأولى فى الحياة السياسية العربية.
لكن الكوارث التى تتالت إبان النصف الثانى من القرن الماضى قادت إلى مراجعة عميقة للفكر القومى العربى والتى انتهت بطرح المشروع النهضوى العربى بمكوناته الستة، ومنها ضرورة الانتقال إلى نظام ديموقراطى حقيقى غير مزيّف بشعارات غامضة من مثل الجماهيرية والشعبية، أو الحزب القائد، أو تطبيقات مقيّدة من مثل ضرورات الأمن التى تحددها أجهزة الاستخبارات وليست الجهات التشريعية أو القضائية الدستورية والقانونية. من هنا فإن مدخل الديموقراطية يجب أن يكون ضمن المعطيات التالية:
أولا: إنها ليست فقط تمثّل ضرورة سياسية ومنعطفا تاريخيا وجوديا لأمة وشعوب عاشوا عبر القرون الماضية تحت حكم الفرد أو العائلة أو أية فئة متحكمة باسم شتّى المسميات، وإنما هى حقّ عام للشعب وللأمة تؤكده وتفرضه حقوق المواطنة ومسئولياتها، وهى أفضل الوسائل لبناء علاقة متوازنة فيما بين المواطن/ المواطِنة وكل أجهزة الدولة، كما أنها أفضل مهيّئ لاندماج المواطنين والمواطنات فى عملية التنمية المجتمعية الشاملة. ولكن ذلك لا ينبنى ولا يتجذّر ويتطوّر إلا فى أجواء من الحرية التى تشمل حرية الرأى والعقيدة والقول والنشر وتعددية سياسية ومدنية، ونظاما تمثيليا نيابيا عادلا وشفافا نزيها وممثلا لكل مكونات المجتمع، وبشرط أن يكون هناك فصل بين سلطات الحكم وتداول فيما بين حاملى مسئولياتها، على أن يكون تنظيم كل ذلك بمنطوقات دستورية وقانونية شرعية.
ثانيا: وما عاد الكلام عن ديموقراطية سياسية تمثيلية كلاسيكية يكفى، إذ أثبتت الأزمات المجتمعية الكثيرة فى شتّى بقاع العالم ضرورة أن تصاحب الديموقراطية السياسية ديموقراطية اقتصادية تنطلق من مبادئ العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لثروات المجتمع المادية والمعنوية. هذا المطلب أصبح من الضرورات بعد أن قادت الرأسمالية النيوليبرالية العولمية البالغة التوحش إلى أزمات اقتصادية ومالية متكررة وانتهت إلى زيادات هائلة فى ثروات القلة الغنية وإلى مزيد مأساوى فى فقر الفقراء ومن ثمّ تراجع مقلق فى عدد أفراد الطبقات الوسطى وإلى تراجع فى قدراتهم المعيشية كافة، وإلى شبه توقّف للحراك الاجتماعى نحو الأفضل بالنسبة للفرد وللجماعة.
ولقد لخّص ذلك التوجه منذ ثمانينيات القرن الماضى القيادى فى حزب الاستقلال المغربى، عبدالكريم غلاب، عندما أعلن: «نحن لا نفرّق بين الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية والديموقراطية السياسية فى نضالنا»، إذ لا بدّ أن نسير على هذين القدمين وإلا لن نصل إلى تحقيق أهدافنا.
وهكذا فإن فهما جديدا للديموقراطية أنهى فهمها الكلاسيكى الليبرالى البرجوازى السابق الملىء بالثغرات، والذى أراد الغرب الاستعمارى أن يفرضه على دول المنطقة تحت شعار تمدينها.
ثالثا: فى مجتمع عانت المرأة فيه عبر القرون من النظرة التهميشية وعدم المساواة مع الرجل فى كل حقوق المواطنة تعيد الديموقراطية المقترحة إلى المرأة الحقوق المستحقة الإنسانية والشخصية والمجتمعية وتمنع، حقوقيا، أى نوع من التمييز ضدها بسبب الجندر الجنسى، وتفتح لها أبواب كل الفرص الحياتية المتساوية مع أخيها الرجل.
كان مؤملا أن تقود حراكات ما يسمّى بالربيع العربى إلى انتقالات جادة نحو النظام الديموقراطي، لكن ذلك لم يحدث، بل إنه قاد فى بعض البلدان إلى مزيد من الانتكاسات الديموقراطية ومع ذلك فإن الديموقراطية قد أصبحت جزءا أساسيا من الفكر السياسى العربى وبالتالى من أية عملية تحديث عربية ذاتية مستقبلية.
وعلى الشباب والشابات أن لا ينخدعوا بمحاولات البعض لإرجاع الموضوع الديموقراطى إلى الوراء والتهميش.