جينات الدكتور زويل وأزمة التعليم فى مصر - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 4:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جينات الدكتور زويل وأزمة التعليم فى مصر

نشر فى : الأحد 11 أكتوبر 2020 - 8:25 م | آخر تحديث : الأحد 11 أكتوبر 2020 - 8:25 م

كثيرون هم المصريون الذين تفوقوا خارج مصر، رغم أنهم تلقوا كل مراحل تعليمهم ــ حتى الجامعى ــ فى مصر. هذا هو حال المرحوم الدكتور أحمد زويل والدكتور محمد البرادعى وكل منهما حصل على جائزة نوبل، الأول لتفوقه فى أبحاث الكيمياء والثانى لإدارته الناجحة والشجاعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومنهم الدكتور مجدى يعقوب جراح القلب الأشهر عالميا، والدكتور هانى عازر مصمم محطة قطارات برلين، وتتعدد الأمثلة لمصريين أكثر شبابا يقومون بالتدريس فى أرقى الجامعات العالمية مثل خالد فهمى فى جامعة نيويورك وحازم قنديل بجامعة كمبريدج. ولم نعرف عن المصريين الذين آثروا البقاء فى مصر أنهم وصلوا إلى هذه الدرجة من التفوق التى نقلت الآخرين إلى صعيد العالمية. ولذلك من المشروع أن يثور السؤال: كيف تفوق أمثال زويل ويعقوب رغم أنهم شربوا من مياه نيل مصر وتذوقوا طعامها وتلقوا العلم فى مدارسها وجامعاتها؟ هل حباهم الخالق بجينات خاصة جعلتهم يبرزون فى مجالاتهم، وكانت جينات أخرى هى من حظ المصريين الذين بقوا فى الوطن.
دارت فى ذهنى هذه الأفكار وأنا أستعد مع عشرات الآلاف بل ومئات الآلاف ممن يقومون بالتدريس فى الجامعات والمدارس العامة فى مصر لبدء عام دراسى جديد، وتساءلت كيف يخرج التعليم العام فى مصر ــ فى جميع مستوياته ــ من الأزمة التى يعانيها، وكيف يمكن لهذه العقول الغضة والشابة أن تشق طريقها داخل الوطن لإنجازات تضارع ما حققته خارج مصر هذه الشخصيات الفريدة التى ضربت بعض أمثلة محدودة لها. الجينات لا تنقصهم بكل تأكيد، ولكن المشكلة الكبرى هى فى السياق الذى يحيطنا ويحيطهم.

السياق هو المسئول عن أزمة التعليم

لا أظن أن مسئولية السياق عن غياب الحافز للإجادة تحتاج إلى أدلة قوية من جانبى. تملكنى الحسرة عندما أقوم بتعداد الزملاء والأعزاء الذين فضلوا البقاء خارج الوطن رغم أن لهم مواقعهم فى الجامعات أو أن مواقع تنتظر عودتهم. أفهم أن بعضهم لا يريد العودة لأن مصيره السجن لأسباب سياسية أو أمنية. ولكن هناك آخرين وأخريات لا يواجهون مشاكل من هذا النوع، ومع ذلك هم لا يريدون العودة. فلنقل إن ذلك هو حال أساتذة العلوم السياسية والذين لا يبدعون إلا فى أجواء حريات الفكر والتعبير والتنظيم، ولكنى أعرف أيضا أن هذا هو الحال بين خريجى الهندسة والطب وغيرهم ممن ليس لهم اهتمام كبير بالشأن السياسى أو حتى بالشأن العام، ومع ذلك هم عازفون عن العودة. وأقارن هذا الموقف بما كان عليه الحال فى أعقاب ثورة يناير ٢٠١١ التى يصر معظم كتاب الصحف عندنا على وصفها بالمؤامرة، وكان معظم هؤلاء الشباب الواعد متحمسا للعودة والعمل فى الوطن رغم أن سبل الحياة الرغدة والآمنة كانت متاحة لهم فى البلاد التى كانوا يدرسون بها.
لا يمكننى أن أتجاهل أن هناك جهودا دءوبة بذلت وتبذل لتحسين مستوى التعليم العام فى مصر، والذى ينتظم فيه أكثر من ٩٠٪ من الطالبات والطلاب، وهو أمل مصر الحقيقى فى النهوض بأوضاعها، بل وهو الذى تعتمد عليه المؤسسات التعليمية الخاصة التى يذهب إليها العشرة الباقية ممن هم فى سن تلقى العلم. وعقدت لهذ الغرض مؤتمرات كان آخرها العام الماضى، ويقدم البنك الدولى بعض المساعدة فى تنفيذ برنامج إصلاح التعليم فى مصر، بل إن هناك مؤشرات عديدة على تحسن كمى فى هذا التعليم، فبالمقارنة بما كان عليه الحال منذ عشر سنوات ارتفع عدد سنوات التعليم فى المتوسط من ست سنوات ونصف إلى أكثر من سبع سنوات، وارتفعت معدلات الالتحاق بجميع مستويات التعليم قبل الجامعى، ووصلت إلى ٨٣٪ فى التعليم الثانوى، ووصل عدد من يتلقون تعليما عاليا إلى أكثر من ثلث (٣٥٪) من هم فى سن التعليم الجامعى، وتجمع على هذه المؤشرات كل التقارير الدولية المشهود لها بالمصداقية. طبعا هذا التقدم فى المؤشرات الكمية للتعليم فى مصر يخفى وراءه من الناحية الكمية أيضا الازدحام فى فصول التعليم قبل الجامعى، ووجود نسبة لا تقل عن ربع العاملين فى التدريس فيه لم يتلقوا أى تدريب خاص، أو أن قرابة نصف المدارس لا ترتبط بشبكة الانترنت. ولكن المشكلة الكبرى هى المؤشرات الكيفية، فتدهور مستوى التعليم فى مصر لا يمكن نكرانه. طبعا وزارة التعليم لا تساعدنا على معرفة الواقع لأنه بينما ترتضى دول أخرى مشاركة طلابها فى اختبارات دولية لتحديد مستوى معرفة الرياضيات والعلوم توقفنا عن المشاركة فى مثل هذه الاختبارات، ولكننا نواجه هذه المشكلة فى الجامعات، وحتى فى تلك الكليات التى توصف بأنها كليات القمة، والمؤشر الذى أستند إليه بسيط للغاية، وهو معرفة الكتابة الصحيحة باللغة العربية، وأصارحكم بأنه أصبح من النادر أن أجد طالبة أو طالبا يجيد كتابة رسالة جامعية على مستوى الماجستير أو الدكتوراه بلغة عربية سليمة. ولماذا وعلى الرغم من تلك المجاميع المبهرة التى يحصل عليها خريجو المدارس الثانوية عند انتهاء دراستهم بها، والتى لم يكن مسموعا عنها على أيامنا. فإنهم فى الجامعة لا يعرفون الكتابة بلغة عربية سليمة. أى من زملائى لم يجد صعوبة فى الدراسة بالخارج بلغة أجنبية أو البراعة فى الإحاطة بما كتب فى الفرع العلمى الذى تخصص فيه فى المصادر الدولية. الاهتمام باللغة وبمعرفة الرياضيات والفيزياء هى المؤشرات الدولية لجودة التعليم.
لا تختلف جينات شبابنا عن جينات مجدى يعقوب وأحمد زويل وهانى عازر، ولكن السياق الذى يدرس فيه شبابنا وسياق عملنا فى الجامعات يختلفان كثيرا عما عهده هؤلاء فى الخارج، وعندما يختلف السياق، فلا يجب أن نتوقع أن نصل إلى نفس النتيجة التى خرجت عن سياق مختلف. ولذلك فلن أدخل فى تقويم برامج الإصلاح التى يتحدث عنها مسئولو التعليم على جميع مستوياته، وسأكتفى بطرح بعض معالم هذا السياق.

معالم الأزمة فى السياق
أول هذه المعالم هى أنه ليس هناك إدراك حقيقى لخطورة قضية التعليم فى مصر، وأن نجاح مصر فى التغلب على كل التحديات التى تواجهها هو بارتفاع مستوى تعليم المواطنين والقادة على حد سواء. تواضع مكانة التعليم على جدول أعمال الحكومة لا يحتاج مجهودا كبيرا لإثباته. ما هو الوقت المخصص لمناقشة قضايا التعليم فى عمل الحكومة على أعلى مستوى؟ ما هو الوقت المخصص لبحث قضايا التعليم فى الاجتماعات، بالمقارنة بقضايا أخرى مثل مشروعات البنية التحتية؟ وما هو عدد الاجتماعات التى تناولت قضايا التعليم سواء على أى من هذه المستويات.
لقد أسعدنى الحظ منذ سنوات حضور اجتماع نظمته جمعية الصداقة البريطانية المصرية فى لندن، وكان أحد موضوعات المناقشة هو إصلاح التعليم فى بريطانيا، وكان المتحدث هو رئيس فريق متابعة برنامج إصلاح التعليم فى حكومة تونى بلير. أعجبنى كثيرا ترجمة الاهتمام بإصلاح التعليم فى بريطانيا إلى مؤشرات تجرى متابعتها دوريا فى مكتب رئيس الوزراء لكى يتم التأكد من تنفيذه ولكى يتم اتخاذ الإجراءات المناسبة لإزالة أى عقبات تعترض التنفيذ وبتدخل أعلى مستوى فى الحكومة البريطانية. لم أسمع عن لجنة مشابهة على أعلى مستويات صنع القرار فى مصر تختص بمتابعة مشروعات إصلاح التعليم.
الاهتمام بإصلاح التعليم يقتضى أيضا تخصيص الأموال اللازمة لذلك فى ميزانية الدولة. نسبة الدخل القومى المخصصة للتعليم تقف فى الوقت الحاضر عند ٣,٨٪ وهى نسبة تقل عن ال٥٪ التى خصصت للتعليم فى أوائل ثمانينيات القرن الماضى. تشير تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائى إلى أن نسبة الناتج المحلى الإجمالى المخصصة للتعليم والصحة فى مصر لا تكاد تتجاوز إلا بقليل (١,٢) بينما تصل هذه النسبة فى كوريا الجنوبية إلى أكثر من أربعة أمثال (٤,٦)، وبينما لا يصل الإنفاق على البحث العلمى والتطوير فى مصر إلى ١٪، هو فى الحقيقة (٠٠,٦٪)، فإنه أكثر من ذلك بنحو أربعة أمثال فى كوريا الجنوبية (٢,٦٪). تعمدت أن أضرب مثلا بكوريا الجنوبية لأن نجاحها فى التنمية الاقتصادية الصحيحة، وكذلك فى التحول الديمقراطى مبهر، ومع أن نسبة دخل الفرد فيها فى بداية ستينيات القرن الماضى عندما بدأت قفزتها الكبرى على طريق التنمية كان أقل مما كان عليه الحال فى مصر، هى الآن عضو فى نادى الدول المتقدمة فى منظمة التعاون والتنمية فى المجال الاقتصادى، وهى منذ تسعينيات القرن الماضى انتقلت من الحكم العسكرى إلى حكم مدنى عرف أكثر من مرة تداول السلطة بين حزب حاكم وحزب معارض.
طبعا عندما يؤدى الاهتمام بالتعليم إلى أن تكون له أولوية كبرى فى الإنفاق العام، سوف يمكن حل مشكلة التكدس فى الفصول، والنهوض بأوضاع المعلمين، وأوضاع هيئات التدريس الجامعية، ولكن سوف يكون من الخطأ قصر أهمية دور الدولة فى توفير موارد إضافية للعملية التعليمية. لا أظن أن السياق المختلف الذى أبدع فيه علماؤنا الكبار فى الخارج كان هو فقط مستوى المعيشة الكريم الذى يتيحه العمل فى جامعة أمريكية أو مؤسسة طبية بريطانية ولا حتى التسهيلات المادية لإجراء البحوث. كان سبب هجرة المرحوم دكتور زويل مضايقات إدارية فى كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، ولا أظن أنه كان يحتاج ملء استمارة من خمس نسخ لتقديمها لأجهزة الأمن عندما احتاج للسفر خارج الولايات المتحدة الأمريكية كما يحدث عندنا، أو أنه سمع أن أجهزة الأمن الأمريكية اعترضت على مواصلة أحد طلابه بحثا يقوم به فى الخارج، أو أن جهة فى الدولة أغلقت مركزا للأبحاث السلمية فى الطاقة النووية فى إحدى الجامعات لأسبابها غير المفهومة.
أذكر أنى عندما كنت طالبا فى كلية الاقتصاد وفى عز الحكم الشمولى «الاستبدادى» لجمال عبدالناصر شهدت واستمعت لصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى ومصطفى أمين وعلى أمين وبنت الشاطئ وسهير القلماوى وغيرهم وغيرهن من قمم الفكر والمجتمع فى مصر. بل لقد دعوت بنفسى بهاء طاهر والمرحومين نبيل الهلالى وجمال الغيطانى وأسامة أنور عكاشة للحديث للطلبة والأساتذة فى قاعات كلية الاقتصاد. وكان ذلك على عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. السياق الذى يجذب الشباب للجامعة هو مناخ الحرية الفكرية وتفاعل الأفكار الذى يشهدونه فى الغرب وصار مفتقدا فى جامعاتنا.
ولا ينفصل هذا السياق السياسى عن سياق اجتماعى واقتصادى. فقد أظهرت دراسة تمت بدعم من وزارة التنمية الإدارية منذ سنوات أن منظومة القيم قد تغيرت فى مصر، وأصبحت تسودها قيم السعى للثروة بأى طريق وللكسب السريع، كما أن منظومة الدخول فى المجتمع لا تقيم وزنا كبيرا للاجتهاد فى التعليم.
بدون تغيير هذا السياق السياسى الاجتماعى الاقتصادى، فسوف نستمر فى أن نتعجب أن مصريين لهم نفس جيناتنا قد تفوقوا تفوقا مبهرا فى الخارج، بينما لم تظهر عليهم علامات النبوغ عندما كانوا فى مصر.

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات