في الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي، وتحت شعار «السينما من أجل الإنسانية»، تحوّلت الجلسة الحوارية التي جمعت النجمة الأسترالية كيت بلانشيت بالإعلامية رايا أبي راشد إلى ما يشبه درسًا في المعنى العميق للفن، والالتزام الإنساني الذي يتجاوز الكاميرا والشهرة.
بلانشيت، التي منحها المهرجان لقب «بطلة الإنسانية» تكريمًا لمسيرتها الفنية ومواقفها كسفيرة للنوايا الحسنة لدى مفوضية اللاجئين، قدّمت شهادة تختزل فلسفتها في الحياة والسينما معًا: أن الفن ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لفهم العالم ومداواة جراحه.
1- السينما كمختبر للتحول
حين تحدّثت بلانشيت عن بداياتها ومسارها الطويل من المسرح الأسترالي إلى هوليوود، لم تتعامل مع التمثيل كمهنة، بل كرحلة استكشاف دائم للذات والآخر.
قالت في إحدى لحظات الحوار: «ما يدهشني في كل دور هو أنه يغيّرني قليلًا».
هذه العبارة تفتح بابًا لتحليل رؤيتها للتمثيل كفعل تحول مستمر — لا يكتفي بتقليد الحياة بل يعيد صياغتها.
من أفلامها مثل Blue Jasmine وTÁR، يمكن قراءة مسيرتها كمشروع فنى يسائل السلطة، الهوية، والصدق الداخلي للفنان.
حضورها في الجونة، إذن، لم يكن حضور نجم عالمي بل حضور “الممثلة – المفكرة” التي ترى أن الفن لا يعيش إلا عندما يظلّ في حالة توتر مع الواقع.
2. شهادة الإنسانة: الفن بوصفه مسؤولية
أكثر ما شدّ الجمهور هو حديث بلانشيت عن تجربتها كسفيرة لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وعن زياراتها الميدانية لمخيمات اللجوء.
قالت: «الفن يمنحنا القدرة على تخيّل حياة الآخر، ومن ثم التعاطف معه».
هذه الجملة، ببساطتها، تختصر فلسفة السينما كفنّ أخلاقي.
فمن خلال الكاميرا، يصبح الغريب مرئيًا، والمهمّش جزءًا من الحكاية الكبرى.
في هذا الإطار، لا تفصل بلانشيت بين الموهبة والواجب؛ بل ترى في الشهرة أداة ينبغي أن تُستخدم لتمكين الأصوات الصامتة.
ولعلّ هذا ما جعل مهرجان الجونة يختارها رمزًا لشعاره الإنساني، في منطقة ما زالت تتلمّس طريقها نحو سينما تُخاطب العالم من موقع القيم لا فقط من موقع الجماليات.
3. البُعد الرمزي: بلانشيت كمرآة لمهرجان عربي
إن اختيار الجونة لنجمة عالمية مثل بلانشيت ليس مجرد حدث احتفالي، بل خطوة رمزية في مشروع المهرجان لبناء جسر بين السينما العربية والعالمية.
في شهادتها، أثنت بلانشيت على الطاقة الإبداعية في المنطقة، مشيرة إلى أن القصص العربية «غنية بالدراما الإنسانية التي يحتاجها العالم».
من منظور نقدي، يمكن قراءة هذا التصريح كإعادة اعتبار للرواية العربية في خريطة السينما العالمية.
كما أن الحوار معها أمام جمهور عربي أعاد طرح السؤال القديم الجديد:
هل يمكن أن تكون المهرجانات العربية منصات حقيقية للتبادل الثقافي، لا مجرد استعراض للنجوم؟
4. ما بين الخطاب والفعل
من السهل أن تُبهرك كلمات بلانشيت عن الإنسانية، لكن القراءة التحليلية تطرح تساؤلات أعمق:
هل يكفي الخطاب الإنساني لتغيير واقع صناعة السينما؟
وهل يمكن أن تتحول شهادتها إلى فعل مؤسسي ينعكس في إنتاج أفلام تُعالج قضايا اللجوء والهوية؟
الإجابة تظل مفتوحة، لكنها تُشير إلى أهمية أن يتحول الإلهام إلى ممارسة — أن تُترجم مثل هذه اللقاءات إلى ورش تعاون، دعم إنتاجي، أو منصات حقيقية للمواهب الشابة.
وهنا يظهر دور المهرجان: ليس فقط كمضيف للنجوم، بل كمنتج للمعنى.
5. الفن كأفق مشترك
في نهاية الجلسة، قالت بلانشيت بابتسامة هادئة:
«ما يوحّدنا ليس اللغة، بل المشاعر التي نحملها ونحن نحكي قصصنا.»
هذه الجملة تصلح أن تكون ختامًا لمعناها الرمزي في المهرجان:
السينما ليست لغة الغرب أو الشرق، بل لغة الإنسانية التي تبحث عن ذاتها في كل صورة وحكاية.
وإذا كان مهرجان الجونة قد أراد بشعاره أن يربط بين الفن والإنسان، فإن شهادة كيت بلانشيت جاءت لتجعل هذا الربط ملموسًا، حيًّا، ومُلهمًا.
6- مصر ودورها في الخطاب الإنساني؟
برزت كيت بلانشيت كصوت فني وإنساني يُطلّ على قضايا المهجّرين واللاجئين، مركّزة على الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر كمِعبر ثقافى وإنسانى في المنطقة.
أكدت بلانشيت أن الفن، والسينما بشكل خاص، يمتلكان قدرة فريدة على إيصال أصوات المهمّشين، وإبراز تجارب لا تُروى في الغالب، معتبرة أن “من يستبعد هذه الأصوات من السرد يصبح جزءًا من عملية تهميشهم”.
ثم أشارت إلى أن مصر تعد من الدول التي تتحمّل عبء استضافة اللاجئين في الشرق الأوسط، لافتة إلى أن القاهرة وغيرها من المدن تواجه تحديات تمويلية وبنية استيعابية كبيرة، مما يجعل النظر إلى دور مصر ليس فقط من زاوية الضيافة بل من زاوية التضامن والدعم الدولي، خاصة مع الأزمة السودانية التي أجبرت الكثيرين على النزوح إلى الأراضي المصرية.
بلانشيت لم تقتصر رؤيتها على الجانب الإنساني فقط، بل ربطت بين الثقافة والفن ودورهما في إحداث تغيير؛ فهي ترى أن مهرجانات مثل الجونة يجب أن تكون منصات لا للتجميل فقط، وإنما للتحدي والمساءلة والتنوير.
في ختام حديثها، دعت إلى تعاون أوسع بين المؤسسات المحلية والدولية لدعم المشاريع السينمائية التي تتناول قضايا النزوح والهوية، معتبرة أن مصر، بتراثها الثقافي الغني وموقعها الجغرافي، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في جعل هذا التعاون واقعًا ملموسًا، وليس مجرد شعار.
7-من الحكاية إلى الفعل
تغادر بلانشيت الجونة تاركة وراءها أكثر من انطباع بصري؛ تترك فكرة.
فالفنان الحقيقي، كما تُعلّمنا شهادتها، لا يقف عند حدود المجد الشخصي، بل يوسّع أثره ليشمل الآخرين.
إنها دعوة لأن نرى في السينما العربية مشروعًا للوعي والتغيير، لا مجرد صناعة.
ولعلّ هذا هو التحدي الأكبر: أن نترجم هذا الوعي إلى أفلام، ومبادرات، وسياسات ثقافية ترى في الإنسان بطلها الأول والأخير.