في مقالة الأسبوع الماضى بَيَّنَّا لشابات وشباب الأمة، أمل المستقبل وإمكانياته الهائلة، خطأ القائلين بعدم جدوى الأيديولوجيات في المجتمعات العربية. ولقد ركزنا على الأهمية القصوى لتطوير كل أيديولوجية بصورة دائمة لإنعاش حيويتها ولربطها بكل مستجدات الواقع الذى تسعى لإصلاحه وتغييره. وهذا ما حدث للأيديولوجية القومية العروبية عبر العقود الماضية، ولكن بصورة خاصة بعد تراجع تواجدها الفاعل منذ سبعينيات القرن الماضى.
ولعل أكبر محاولة للمراجعة والتجديد تمثلت فى المشروع النهضوى العربى الذى عمل على بلورته بضع مئات من مفكرى ومفكرات ونشطاء السياسة العرب بمبادرة من مركز دراسات الوحدة العربية.
كان أكبر تطوير هو اعتبار الديموقراطية، بمكونها السياسى القائم على حرية التعبير، وتكوين الأحزاب، والانتخابات النزيهة، وفصل سلطات الحكم التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتبادل دورى لسلطات الحكم، والاحتكام إلى القانون، والمواطنة المتساوية، وأيضاً وبصورة مساوية بمكونها الاقتصادى القائم على عدالة توزيع الثروة والحفاظ على الكرامة الإنسانية ومسئولية الدولة عن توفر الخدمات الاجتماعية والمعيشية الأساسية، اعتبارها جزءا أساسيا من المشروع النهضوى العربى.
هذا التطوير كان خطوة هائلة في أيديولوجية اعتقدت فى بداياتها أن الديموقراطية ليست أكثر من لعبة تضليلية في يد قوى البرجوازية والثراء في المجتمع، وبالتالي لا أهمية لها.
وكان التغيير الثاني الكبير هو اعتبار التنمية الإنسانية الشاملة المستقلة مكونا لازما فى الأيديولوجية القومية العروبية، وفي قلبها بالطبع الموضوع الاقتصادى. لكن المشروع اكتفى بوضع المبادئ العامة، من مثل العدالة الاجتماعية ورفض التبعية، دون أن يسمى النظام الاقتصادى المنشود بالاسم. ولعله كان يحاول تجنب الدخول فى المماحكات القديمة حول «الاشتراكية العربية»، مرجعية ومبادئ وتطبيقا فى الواقع، أو لعله كان ينتظر ما تسفر عنه مقولات وتطبيقات هجمة الاقتصاد الرأسمالى العولمى النيوليبرالى فى بداية الثمانينيات والذي اكتسح العالم وحل محل كل أنواع الاقتصادات السابقة.
وهذا الموضوع، فى رأيى، هو الذى سيكون أجندة التغيير القادم فى الأيديولوجية القومية العروبية، وذلك بعدما تبين للجميع مقدار وعمق الكوارث الإنسانية التى أنتجها النظام الاقتصادى الرأسمالى العولمى الجديد. وسيتلخص الموضوع فى طرح السؤال التالى: هل حان الوقت للحديث عن نظام اقتصادى جديد غير رأسمالى، سواء العولمى النيوليبرالى أم الكلاسيكى قديم، ليكون مكونا رئيسيا من مكونات الأيديولوجية القومية العروبية الذى حاول المشروع النهضوى العربى رسم كل مكوناتها؟
فى اعتقادى أن المراجعات الجادة على مستوى العالم، للنظام الرأسمالى من جهة، وللنظام الاشتراكى الماركسى من جهة أخرى، وبروز النظام الاقتصادى الصينى المزاوج بين بعض مكونات النظامين كتجربة تثير الانتباه وتحتاج لدراستها بتمعن، وطرح بعض دول العالم الثالث لأنظمة اقتصادية لا تخضع فى تفاصيلها لأى نظام اقتصادى.. فى اعتقادى أن كل ذلك يستوجب أن نفكر، نحن العرب، في تبنى نظام اقتصادى، يأخذ واقعنا وتاريخ محاولاتنا السابقة ودروس المجتمعات الأخرى بعين الاعتبار، ويبتعد عن الترقيعات والمخاوف غير المبررة، وذلك من أجل التأكيد والإثبات، خصوصا لأجيال الشباب والشابات، بأن الأيديولوجية القومية العروبية تتمتع بالحيوية والمرونة والانفتاح والندية الحضارية. وسنعود للملامح الأساسية لذلك فى مقال قادم.
إذا كنا نريد للطاقات الثورية الشبابية العربية أن تنتظم في مشروع استراتيجى سياسى كبير مستقبلا فعلينا أن نعض بأسناننا على موضوع الأيديولوجية في الحياة العربية.
مفكر عربى من البحرين