أعود دائما إلى أسوان. أعود لأفعل الشىء نفسه الذى كنت أفعله وأنا طالب الثانوية. أنزل إلى النهر وأقضى معه ساعات طويلة. نجدف حين كانت أذرعنا قوية وقادرة. ومنذ عقد أو أكثر قليلا بدأت أستعين بالمراكبى. الآن المراكبى وأنا نستعين بمحرك مزود بكاتم صوت. ذهبت هذه المرة وفى نيتى أن أقضى مع النهر أطول فترة ممكنة. وبالفعل قضينا معا خمس ساعات امتد آخرها حتى لحظة شعرت بأنها تستطيع أن تسحب معها الشمس الغاربة وتستقبل محلها هلالا ونجوما وليلا ناعما.
•••
عدت، بعد رحلتى مع النهر، إلى الفندق ونمت حتى الصباح. نمت نوما لم أنم مثله من زمن طويل. هل يمكن أن يوصف نوم بأنه كان سلسا رقراقا كماء النهر عند الجنادل، أو يوصف بأنه كان ناعما كالحرير. نوم استيقظت بعده مبتسما وراضيا عن نفسى، ومبتهجا بيوم لم يكد يبدأ. هناك على الشرفة جلست أنصت إلى الطيور، مئات بل آلاف، تتبادل الأغانى وأظنها ألحان حب وغرام، لا عتاب فيها ولا جلد ذات ولا خوف من قناص ولا وجل من سجان وقفص. تصورت أن بعض أسرابها كانت تدور فوق النهر مودعة، فقد حان موسم عودتها إلى جنوب إفريقيا، لترتاح قبل أن تبدأ رحلة العبور عبر الأطلسى إلى جنوب أمريكا. كلها أوطان والعالم وطنها الأكبر.
نمت ليلة ثانية، وليلة ثالثة مستمتعا بنوع غير مألوف من النوم. مرة أخرى بل ومرات بعدها تأكدت أننى لم أنعم من قبل بنوم كهذا النوم. أنا غريب عن هذا النوم.
•••
غادرت أسوان ممتلئا صحة وعافية وتفاؤلا ولكن مصمم على أن أتعرف على أصل هذه المفارقة، لماذا ننام نوما مزعجا فى مكان وننام نوما ناعما فى مكان آخر. ننام سعداء فى ساعات وننام تعساء فى ساعات أخرى. أليس كل النوم غيابا مؤقتا عن الوعى.
لا أظن أننى تعمقت يوما فى قراءات عن النوم مثلما فعلت يوم عدت من أسوان واليوم التالى، لم أكن أعرف أن للنوم علاقة بالتاريخ والجغرافيا، فالنائم لا يصنع تاريخا ولا يترك سطورا فى سجلاته ولكنه يتأثر بالارتفاعات والسهول والرطوبة والضغط واتجاهات الريح. لم أكن أعرف أن للنوم علاقة باستراتيجيات الحرب والسلم. كنت أعرف قليلا عن علاقة النوم بالحب والجنس، وما عرفته وصلنى عن طريق علاقته بالأحلام كما فسرها سيجموند فرويد. ولكنى بالتأكيد لم أعرف ولم يخطر على بالى فى يوم من أيام شبابى، وغيرها من الأيام، فكرة ان للنوم علاقة بالماركسية والرأسمالية وقضايا السوق كالبيع والشراء، أو أنه وثيق الصلة بالفجوة فى التوزيع وبرهان ساطع على اللا مساواة بين البشر فهناك من ينامون بالساعات الطوال وهناك من لا يجدونه. عرفت الآن أن بعض العلماء يقيسون به «تمدن» الإنسان وتحضره. وأقطع بأننى لم أعرف أن يد الخصخصة امتدت إلى النوم لتنزع عنه براءته وتخلع عنه صفة الملكية العامة التى كانت تتباهى بها مياه الشرب والهواء النقى، قبل أن يتحولا إلى سلع نادرة تباع وتشترى.
كتب أحدهم عن النوم كوقت ضائع فى حياة الإنسان. يتنازل راضيا عن ثلث حياته ليفعل لا شىء على الإطلاق. ينام من مجمل حياته المديدة عشرين أو ثلاثين عاما، أعوام لن يسجلها التاريخ ولا يأتى ذكرها فى السير الذاتية التى يكتبها الباحثون عن وظائف والمشاهير الساعون إلى تخليد أنفسهم. ثلث فاقد لا يحقق إضافة لصاحبه. ثلث وصفوه بالثلث المسروق.
اكتشفت أن آخرين طوروا هذه النظرية الشريرة ليستعبدوا بشرا مثلهم. من منا لا يعرف أن الثورة الصناعية فى بدايتها اعتمدت على إجراءات وقواعد تهدف إلى تقصير ساعات نوم العمال إلى أدنى حد ممكن لتشغيلهم إلى أقصى حد ممكن. نذكر مثلا كيف أن شركة بولمان الأمريكية للقطارات كانت تفرض على العمال وأغلبهم من الزنوج ألا تزيد ساعات نومهم على خمس ساعات، وتعاقبهم بالوقف شهرا عن العمل إذا بدا عليهم الإرهاق بسبب الحرمان من النوم. النوم فى نظر هذا النوع من رجال الأعمال والمنتجين الصناعيين وأصحاب دكاكين الحرف يعتبر سلوكا غير إنتاجى وخسارة للعمل وهروبا من العمل.
كان كارل ماركس سابقا على هذه الممارسات عندما كتب فى الفصل العاشر من رأس المال عن جهود أصحاب رءوس الأموال لاعتصار العمال ليحصلوا منهم على أكبر عدد من ساعات العمل، كتب هذا فى وقت كانت الكنيسة البروتستانتية تدعو المؤمنين إلى النوم مبكرا، فالنوم المبكر كان فى رأيها من الفضائل ويحافظ على الأخلاق، بل إن بعض الكنائس ذهبت إلى حد أنها كانت تحرم النوم فى غير مكان النوم وفى غير أوقاته.
•••
وكما ان المنتجين الرأسماليين لم يرتاحوا إلى النوم الذى يفقدهم ساعات عمل ثمينة، فإنهم أيضا لم يرتاحوا لكونه متعة مجانية متاحة لجميع الناس. وكما فعلوا مع مياه الشرب التى خصخصوها لتصبح سلعة نادرة، ثم عبأوها فى زجاجات وباعوها للناس، فعلوا الشىء نفسه مع النوم، شنوا حملات طبية وعلمية وإعلامية تربط القلق بالأرق، وراحوا يروجون لأهمية معالجة أسباب التوتر ومنع الأرق، أزهقوا البشر بسير المشكلات والأزمات واستخدموا أدوات التواصل الاجتماعى، حتى أصيب أغلب الناس بالأرق المزمن ولم يكن أمامهم للتخلص من الأرق سوى الحبوب المنومة. بكلمات أخرى عبأوا النوم فى حبوب والحبوب فى زجاجات وباعوها للناس. باعوا النوم.
•••
كتب نوربرت الياس فى عام 1937 عن طبائع النوم عند الثقافات المختلفة. وصف «النوم فى جماعة» أى فى أماكن مفتوحة، حيث يتجاور النائمون أهلا وأقارب وأبناء عشيرة أو حى، فى الخلاء بأنه دليل قوى على مرحلة تخلف وبدائية. يعتقد الياس أن النوم وراء ستارة أو جدار أو تحت سقف كان أول إنجاز حققته الطبقة البورجوازية ليس فقط فى أوروبا بل وفى بلاد الشرق.
•••
ناموا تصحوا......