للملكة إليزابيث الثانية تساؤل شهير وجهته لأساتذة مدرسة لندن للاقتصاد فى نوفمبر 2008، عند زيارتها لها فى أوج الأزمة المالية العالمية والتى وصفتها، عن حق، بأنها أمر مريع؛ ثم استكملت «لماذا لم يرَ أحدكم قدومها؟».وجاءت الردود على الملكة مقتضبة أثناء الزيارة، بما يفهم منه إفراط المسئولين عن إدارة الاقتصاد فى الافتراض بأن كل واحد منهم يقوم بعمله على خير وجه فى مجاله، وهو ما تبين خطأه بعد اندلاع الأزمة. وكان من الواضح تعذر رؤية ما يحدق من مخاطر للاستدانة مهددة للنظام الاقتصادى العالمى برمته. فقد غابت أبعاد الصورة الكاملة عن عملية اتخاذ القرار، فوقعت أزمة شاملة، ما زال يعانى العالم من تداعياتها، والتى أعتبرها بداية نهاية نظام الاقتصاد العالمى المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية.
ونحن اليوم بصدد أزمة أشد خطورة خاصة على بلدان عالم الجنوب وترجع لنفس السبب وهو الإفراط فى الاستدانة. فإذا كان عبء الدين على المرء «همًّا بالليل ومذلة بالنهار»، فخطورة تأثيره أشد على استقرار الدول ونظمها السياسية والاقتصادية ومستقبل تنميتها واستقلال قرارها. وقد حظى هذا الأمر باهتمام مستحق امتلأت به مؤلفات وتقارير شتى، متاحة لمن أراد الاتعاظ بغيره. ويتطرق الكتاب الموسوعى لعالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر المعنون «الديون: الخمسة آلاف سنة الأولى»، لتأثير الديون تاريخيًا على العلاقات داخل المجتمعات وتفاعلها مع الممارسات الاجتماعية بين عدل واستغلال، وكيف حاول أن ينظمها الدِّين والشرائع والقوانين. وكذلك تأثيرها على العلاقات الاقتصادية والسياسية وحالات الحرب والسلم بين الدول بعضها البعض.
ويرصد التقرير الجديد لمنظمة الأنكتاد لعام 2024، تحت عنوان «عالم من ديون»، مؤشرات مزعجة عن فرص التنمية فى البلدان النامية. فالدين العام المحلى والخارجى بلغ 97 تريليون دولار بزيادة تقترب من 6 تريليونات دولار عن العام السابق، بمعدل زيادة للديون فى البلدان النامية بلغ ضعف زيادته فى البلدان المتقدمة. وبات نصيب هذه البلدان 30 فى المائة من إجمالى الدين العالمى بعدما كان لا يتجاوز 16 فى المائة فقط فى 2010. وفى حين تراجعت نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى ــ بأسعار السوق ــ فى البلدان النامية، بفعل النمو فى بعضها والتضخم فى بعضها الآخر، إلا أن نسبة الدين إلى الناتج قد ارتفعت بحدة فى إفريقيا. وإن كنت أؤكد مجددًا أن الاكتفاء بنسبة الديون إلى الناتج المحلى الإجمالى من المضللات الكبرى لصنع القرار، فالعبرة بالقدرة على خدمة الدين بموارد جارية دون عبء على التنمية والتوازنات الاجتماعية والاقتصادية.
ولا تشير أرقام خدمة الدين لما يدعو للارتياح، فقد زاد وسيط خدمة الدين الخارجى وحده كنسبة من الصادرات من 3.8 فى المائة فى عام 2010 إلى 6.3 فى المائة فى عام 2022، وباتت خدمة الديون تلتهم ما يقترب من 9 فى المائة من الإيرادات الحكومية. ومع ارتفاع مدفوعات الديون المستحقة على البلدان النامية من أسعار الفائدة إلى 850 مليار دولار علينا أن نتساءل: من يدفع حقًا تكلفة الديون؟
ازدادت عملية إعادة جدولة الديون صعوبة بزيادة نسبة دائنى القطاع الخاص للبلدان النامية على حساب الدائنين من الحكومات، الذين يضمهم ما يسمى بنادى باريس، إذ تراجعت حصته من 39 فى المائة فى عام 2000 إلى 10 فى المائة فقط فى عام 2022. ومع غياب إطار عادل وكفء لتسوية المديونيات المتعثرة أصبحت البلدان النامية تفضل التضحية بالغالى، بعد الرخيص، على أن تقوم بإعادة جدولتها. فأعطت سداد الديون أولوية على ما تنفقه على التعليم والرعاية الصحية والخدمات الأساسية. وفى حين يبلغ متوسط الإنفاق السنوى للفرد على الرعاية الصحية 39 دولارًا وعلى التعليم 60 دولارًا فقط، فالمنفق على أسعار فائدة الديون 70 دولارًا! ثم يأتى من يتساءل عن مصير التنمية المستدامة ولماذا أن نسبة تقل عن 15 فى المائة من أهدافها على المسار السليم؛ وباقى الأهداف تكاد تعصف بها رياح الديون قبل بلوغ نقطة النهاية فى عام 2030.
وعلى عكس الأزمة التى اشتكت الملكة إليزابيث من فشل توقعها؛ فالأزمة الراهنة تجاوزت التوقع إلى الواقع، وتدفع ثمنها الأجيال الحالية وستلقى بتبعاتها على أجيال قادمة. وقد حضرت اجتماعًا يتناول أزمة الديون فى عالم الجنوب، احتوت مناقشاته قاعات الفاتيكان العتيدة فى الخامس من يونيو. وشمل جمعًا معتبرًا من خبراء الاقتصاد ورجال السياسة ومسئولى المنظمات الدولية ومؤسسات التمويل والمجتمع المدنى، لوضع مقترحات عملية عاجلة للتصدى للأزمة، وبدأ الاجتماع بلقاء مع بابا الفاتيكان، البابا فرانسيس، الذى طالما اعتبر أن الديون الخارجية ليست شأنًا اقتصاديًا فحسب ولكنها أمر أخلاقى بتأثيرات جمة على حياة الناس وأسباب معيشتهم. وسأفصل بعض المقترحات العملية التى أسفرت عنها المناقشات في مقال قادم.