المياه هطلت وتدفقت سيولا من الجبال والتلال ومحت فى طريقها مئات القرى وقتلت آلاف الأشخاص ودمرت عشرات الجسور والكبارى وشردت عشرة ملايين شخص وأصابت الاقتصاد بالدمار. ثلث مساحة البلاد أو ما يزيد غارق تحت الماء والبؤس، ومهدد بالأوبئة والجوع.
والوطن بأسره تمزقه الفتن الطائفية وقوى التمرد والتشدد التى تستعد لضرب ما تبقى من كيان دولة شهدت ما لم تشهده دولة آسيوية أخرى من انقسامات وانفراط واستبداد.
هناك على الطرف الآخر من العالم. رئيس هذه الدولة يتبضع فى صحبة أولاده الثلاثة فى محال لندن الفاخرة، تنقلهم عبر شوارعها أفخم السيارات ويرتدون أفخر الثياب. سأله مبعوثو الإعلام، وأكثرهم متألم لصور فاجعة الفيضانات فى باكستان، سألوه عن دوافع سفره بعد أن بدأت الأمطار تسقط بغزارة والسيول تجرف الوديان وتقتل الضرع وتشرد البشر.
لم ينطق بإجابة لها معنى، ورفض، رغم ضغوط الجاليات الباكستانية فى الخارج وغضب الناس فى الداخل أن يقطع الزيارات وراح يظهر فى الصور وهو يقدم ابنه بلاوال إلى نيكولاس ساركوزى ثم إلى دافيد كاميرون، والشاب لم يتجاوز الحادية والعشرين.
لم يخف أن اهتمامه بابنه ومستقبله يفوق اهتمامه بأبناء وطنه الغارق فى الوحل. وحين نطق، جلب لنفسه السخرية، قال إنه جاء ليصحح مسيرة العلاقات مع بريطانيا التى تضررت بتصريحات أدلى بها كاميرون رئيس وزراء بريطانيا خلال زيارته للهند وتضمنت إهانة لحكومة باكستان التى اتهمها بأنها تلعب على الحبلين، حبل الناتو وحبل الإرهاب.
توحى للغرب بأنها حليفة، وفى الوقت نفسه تدرب وتمول بعض قيادات الثورة فى أفغانستان ومنهم من هو على علاقة بالقاعدة. لم يقل الحقيقة وهى أن هذه الزيارات لأوروبا كانت مقررة قبل زيارة كاميرون للهند.
من هو زردارى الرجل الذى ترك شعبه يغرق فى الوحل بينما هو يمرح فى باريس ولندن. هو رئيس جمهورية باكستان المنتخب ديمقراطيا عقب اغتيال زوجته السيدة بنازير على بوتو.
اشتهر منذ كان زوجا لرئيسة الوزراء بأنه لا يبالى بغايات الشعب الباكستانى وقضاياه. وليست هذه المرة الأولى التى يكشف فيها عن استخفافه بأزمات الشعب منذ توليه الرئاسة، ففى العام الماضى سافر إلى الولايات المتحدة وأوروبا فى الوقت الذى كانت قوات الطالبان تزحف لتحتل إقليم وادى سوات.
تقول مليحة لودحى، سفيرة باكستان السابقة فى لندن، فى كتابها الصادر حديثا أن الزعامة الراهنة فى باكستان تهتم بالمصالح الشخصية أكثر من اهتمامها بمصلحة الوطن. وتحكى فاطمة بوتو، ابنة أخ بنازير حكاية عائلة بوتو، حكاية أغرب من قصص الخيال، وتستحق أن يفرد لها مكان أفسح من هذا المكان الذى تفرضه ظروف هذه الصفحة.
أشتهر زاردارى بلقب المستر 10%، إذ كان معروفا عنه أنه يتقاضى نسبة معينة من رأسمال أى مشروع يقام فى باكستان. خرج من بيت رئيسة الوزراء، حيث كان يقيم كزوج، إلى السجن أكثر من مرة. كان فساده السبب قى سقوط حكومة بنازير على أيدى الجيش بعد 20 شهرا فى الحكم.
يعيش الآن، دون زوجة، فى قصر فوق تل يطل على إسلام آباد، كان القصر مزارا لذوى الذوق المعمارى الرفيع قبل أن يختفى وراء أسوار عالية من الأسمنت المسلح أقيمت لتحميه من صواريخ الخصوم والمتمردين. يهوى الأفلام الهندية ويتدخل بنفسه لتوزيعها على دور السينما التى يمتلك عدا كبيرا منها إلى جانب ما يمتلكه من أجود أراضى مقاطعة السند.
قيل إن بنازير جعلته قبل اغتيالها يتعهد بأن يستكمل بعدها مهمة إعداد ابنهما وتأهيله لحكم باكستان. الابن كان فى السابعة عشرة عندما وقع الاغتيال ولم يكن يعرف الكثير عن باكستان إلا ما لقنته إياه والدته. تلقى تعليمه وتربيته فى مدارس وجامعات بريطانيا، ولم يكن يجيد اللغة الأوردية ومازال إلى اليوم ينطقها بلكنة أجنبية.
كتبت عنه بنازير فى مذكراتها فقالت إنه حين ولد «كان أشهر طفل أنجبته أم فى تاريخ باكستان» . سمته ببلاوال ويعنى بالأوردية «لا قرين له»، خاصة أنها هى نفسها تحمل اسم بنازير ومعناه «لا قرين لها». تولت بنفسها تربيته ليكون وريث الحكم فى حال وقع لها حادث. وكغالبية العائلات الحاكمة، كانت بنازير على خلاف دائم مع شقيقها مرتضى.
ويحكى القريبون من العائلة عن تنافس واضح بين بيلاوال ابن الحادية والعشرين وشقيقه باختاوار، بينما ينقل الكاتب الأمريكى سيجل صديق العائلة عن آصفة الشقيقة الأصغر قولها «أنا التى سوف أخلف أمى».
وتذكر الروايات أن الابن الأكبر بيلاوال خطب وهو فى سن السابعة عشرة فى حفل بأكسفورد فقال إن والدته حصلت من زوجها آصف زردارى على وعد بأن يتولى رئاسة حزب الشعب حتى ينتهى بلاويل من دراسته الجامعية». ومن ناحيتى سوف أفى بوعدى وأنفذ رغبتها وأتولى قيادة الحزب فور انتهائى من الدراسة. والآن وقد تخرج بيلادال فى الجامعة ينصحونه بالسعى للحصول على درجة أعلى فى القانون.
مع سيرة عائلة كهذه العائلة يحتار المرء إن كانت تستحق الشفقة أم الإزدراء. يقول شهود إنهم قرأوا على لوحة تزين جدارا من جدران المقبرة التى دفنت فيها ينازير بوتو أسماء الساكنين فى المقبرة وهم إلى جانب بنازير، التى ماتت برصاص انهمر على سيارتها من جميع الاتجاهات، عم مات مقتولا وعم آخر مات مسموما ووالدها على بوتو الذى مات مشنوقا.
نعرف من الصور وما سجله المراسلون أن الباكستانيين الغارقين تحت مياه الفيضانات لا يفكرون فى المستقبل أو يتحدثون عنه. فالمستقبل غارق معهم. ونعرف أيضا من متابعة رحلات المسئولين من قادة باكستان وحكامها فى أوروبا أنهم، كما كتب محرر جريدة الصانداى تايمز، «مشغولون بمن يرث الحكم أو بالثروات التى يجب أن تتراكم بسرعة فالجنرالات قادمون.. قادمون». هذه على كل حال هى سيرة باكستان وهذا هو قدرها.