تجدد اهتمامى بقضايا القوى الناعمة فى مصر تحت تأثير الحماسة التى صبغت سلوكيات المسئولين، وقطاعات جماهيرية خلال احتفالات قناة السويس. هذه الحماسة سواء تلقائية أو معبأة كانت كافية لتؤكد من جديد ضرورة العمل وبسرعة لوقف التدهور فى ترسانة القوى الناعمة المصرية، وإنعاش ما ركد منها وما خفت صوته وكاد يفقد تأثيره. ضرورى أيضا ابتكار قوى ناعمة جديدة وتشجيع أصحاب المواهب والعقول، وهو ما يمكن أن يتحقق أسرع وأكفأ لو عاد المجتمع المدنى ليتمتع بحرية أوفر. مضت فترة طويلة تعامل فيها بعض السياسيين، والإعلاميين المصريين مع قضايا القوى الناعمة بأسلوب الأغنياء محدثى الثروة، راحوا يبالغون فى التفخيم والتعظيم ومواقع الريادة مستخدمين أرخص أساليب المزايدات الوطنية الزائفة. قيل بتكرار ممل ورتيب أن قوانا الناعمة ما هى إلا وجه آخر لطبيعتنا، هى لصيقة بنا كأفراد وشعب، بل هى جزء لا يتجزأ من ألفياتنا التاريخية. هى كالنيل الذى تجرى مياهه فى عروقنا، يتغير كل شىء فى مصر إلا النيل وقوانا الناعمة. هى كالأزهر وعدد من رجال الدين هيمنوا طويلاً على مناهج تعليمنا معتمدين على بساطة ورقى فهم شعبنا للدين، كان الظن أن كل شيئ يمكن أن يتغير إلا القوة الناعمة للمؤسسات الدينية العتيقة. هؤلاء كالنيل العظيم لا يتغيرون، وبالفعل نصبوا أنفسهم فى السنوات الأخيرة القوة الناعمة الأهم فى وقت بدأ مصريون كثيرون يدركون أن بعض مؤسساتهم الدينية التى كانت تسعى لتتبوأ مكان’ الصدارة بين القوى الناعمة المصرية وتتشبه بمكانة النهر الخالد، صارت هى نفسها نموذجا للنفاذية العكسية، أى صارت أداة للتأثير فى السياسة الخارجية المصرية لصالح تيارات عابرة للحدود ودول أخرى.
أفقنا من سنوات الوهم لنكتشف أن بعض قوانا الناعمة فقدت جاذبيتها وأننا توقفنا عن توليد قوى ناعمة جديدة. اكتشفنا أيضا وما زلنا غير مصدقين تماما أن النهر العظيم، أقوى قوانا الناعمة على الإطلاق، أصابه التلوث وها هو يتعرض لمخاطر لم تدخل فى حسباننا، وأن أقدم مؤسساتنا الدينية وإحدى أهم قوانا الناعمة أصابها ما جعلها تبحث عن مدخل مناسب لاستعادة ثقة تفقدها ودور كانت تستحقه.
•••
قد لا يعرف كثيرون ممن يتحدثون عن القوة الناعمة أنها «فانية» مثل القوى الصلبة. مرة أخرى وللأسف الشديد، عادت تصدر اتهامات بنقص فى الوطنية فى حق متخصصين يحذرون من عواقب التدهور الذى أصاب معظم قوانا الصلبة والناعمة على حد سواء خلال العقود الأخيرة، أى على أيدى طبقة حاكمة التهت بالفساد عن أداء مهمة تجديد القوة وابتكار الجديد منها. أعيب على قيادات هذه الطبقة أنها فضلت إقامة علاقات دولية بأسلوب الوجبات الجاهزة والسريعة. تعاملت بمنطق «ما حاجتنا ببناء قواعد قوة إذا كان فى استطاعتنا التوقيع على اتفاقات جاهزة توفر لنا كل ما نطلبه». كم تمنيت لو خرج علينا خبير اجتماعى أو «استراتيجى» بدراسة تقارن بين حجم ونوع ما كنا ننتج ونخزن ونصدر من القوى الناعمة وبين حجمها الآن. أعرف بالتأكيد أن أعدادا لا بأس بها من أبناء جيل الشباب الذين اختلط بهم لن تستطيع قياس الفارق بين رصيد مصر من القوى الناعمة قبل ثلاثين أو أربعين أو سبعين عاما ورصيدها الراهن.
أبناء الجيل المعاصر لا يعرف أن الدولة المصرية هى التى كانت تكلف أو تطلب أو تتمنى على معلميها العمل لفترات قصيرة فى كيان عربى أو آخر ما زال خاضعا للحكم البريطانى لقاء مبالغ إضافية زهيدة.. لم يكن فى الحياة هناك رغد أو رفاهية، لم تكن أجهزة التكييف قد دخلت المؤسسات والمدارس فى بلاد شديدة القيظ والرطوبة. كان المعلم، وبحق، معلما. وكان أستاذ الجامعة، وبحق، أستاذا. وقد عشنا لنرى الود والاعتراف الجميل والصداقة الحقة فى علاقات ربطت مسئولين كبارا فى هذه الكيانات بعد أن استقلت دولاً وبين هؤلاء الأساتذة. هذه العلاقات، وهذه التجربة، وتجارب أخرى مماثلة فى ميادين كانت الأساس، الذى شيدت عليه مصر سياستها العربية، وأقصد بمصر مصر الملكية ومصر الليبرالية والحزبية ومصر الثورة، قبل أن يبدأ الانحسار المشترك والمتزامن، انحسار مكانة هذه القوة الناعمة وانحسار السياسة الخارجية المصرية.
•••
كانت الأغنية والموسيقى والسينما المصرية، من أهم قوى مصر الناعمة، وكلها اشتركت فى نشر ودعم أهم قوانا الناعمة على الإطلاق بعد النهر العظيم، إنها اللهجة العامية المصرية..
جاءت مرحلة استنزاف شبكات القوة المصرية، الصلب منها والناعم فكانت اللهجة المصرية، وأدواتها كالأغنية والسينما والمسلسلات، الهدف الذى ركزت عليه قوى الاستنزاف الصاعدة فى المنطقة. وقع التدخل بكثافة مذهلة لتقييد نفوذ مصر الإقليمى بحرمانها من أحد أهم قواها على الإطلاق. رأينا على امتداد سنوات كيف أن الممول الأجنبى صار يتدخل ليفرض على مسلسلات وأفلام سينمائية بعينها «لهجات» لا تمت بصلة إلى اللهجة العامية المصرية، بل وأصبحنا نشاهد ملابس يرتديها الممثلون ليست كالملابس التى يرتديها أهل مصر فى ريفها أو صعيدها وسواحلها. عشنا فترة كانت العائلات تناضل ضد سلوكيات تنشرها وتروج لها مسلسلات باعتبارها «ثقافة مصرية»، وهى ليست مصرية. هكذا جرى إفراغ هذه القوة الناعمة الراسخة بجذورها فى ثقافة شعب مصر من مضمونها ونزعها عن أصولها.
جمعنى حديث فى ذلك الحين مع أحد كبار المسئولين حول هذا الموضوع، وكان غرضى من إثارته التنبيه إلى خطورة عدم الاهتمام بما تفقده مصر من قوة ناعمة بعد الأخرى، وضرورة أن تقوم الحكومة بأداء واجب المحافظة على كل ما يصب إيجابيا فى أرصدة القوة المصرية. أجاب المسئول بلهجة الحاكم والحكيم معا، وهى اللهجة التى يريد بها الحكام طمأنة الناس على أوطانهم ومستقبل أولادهم. قال « معاليه «: «لا لن نفعل شيئا يسئ إلى علاقاتنا بأشقائنا. ما الضرر فى أن ننتج لهم ثقافة على هواهم، ثم لا تنسى « حضرتك» أن الدولة قررت أن ترفع أيديها عن السينما والمسرح، وتترك للقطاع الخاص الحرية كاملة ». كان هذا القول «الحكيم» دافعا لكتابة ورقة اخترت لها وقتها عنوان « النفاذية العكسية فى صنع السياسة الخارجية»، وكنت أقصد المرحلة التى صعدت فيها قوى دينية مصرية ممولة من الخارج وظهرت تيارات سياسية متأثرة بنواحى معينة فى فكر العولمة حاولت استخدام بعض قوانا الناعمة، للنفاذ إلى عقولنا وحقول إيماننا وقاعات درسنا وأجهزة حكمنا، وكان لها ما أرادت.
•••
نشرت مجلة الإيكونوميست قبل شهر تقريبا تعليقا موجزا عن حال القوى الناعمة فى العالم. وردت فى التعليق قائمة بترتيب الدول الأكثر استفادة من قواها الناعمة، بمعنى الدول الأكثر قدرة على التأثير فى غيرها اعتمادا على قواها الناعمة. جاءت بريطانيا فى صدارة القائمة والصين فى نهايتها ولم يرد اسم مصر فى القائمة. عندى ولا شك مآخذ ليست قليلة على الأسلوب الذى استند عليه المحررون لقياس قدرة الدولة فى هذا المضمار، ولكن، بوجه عام، أثارت القائمة اهتمامى، ولفتت نظرى إلى اعتبارات صارت تدخل فى تعريف القوة الناعمة لم تدخل من قبل فى اعتبارى. على سبيل المثال، يذكر التعليق أن المواطنين البريطانيين يستطيعون دخول ١٧٤ دولة فى العالم بدون تأشيرة، وهذا وحده فى رأى المجلة أو فى علم السياسة الجديد معيار قوة ناعمة. وردت فى التعليق معايير أخرى مثل أن الموظفين البريطانيين يشكلون النسبة الغالبة فى المؤسسات الدولية. لم تغب عن الايكونوميست على كل حال الاشارة إلى معايير أخرى متعارف عليها ومنها معايير استخدمناها فى مصر مثل عدد ألبومات الموسيقى والأغانى المتميزة، ومثل نسبة الطلاب الأجانب المتقدمين للدراسة بالمقارنة بنسبتهم فى دول أخرى أكثر تقدما.
لفت نظرى أيضا أن الإيكونوميست لم تنتبه إلى حقائق جديدة فى مجال القوى الناعمة. الهند مثلا، لم يأت ذكرها فى الجدول، بينما من المتوقع أن يصل دخلها من عائد «أنشطة ومهرجانات» وممارسات اليوجا إلى ثمانين مليار دولار، بعد أن نجحت حكومة الرئيس مورى فى تنفيذ وعدها إنعاش الثقافة الهندية ووضع برامج لتصديرها. نلاحظ، حتى فى مصر، كيف أن طقوس اليوجا ومشتقاتها أصبحت أهم من تمارين الرياضة بالنسبة لعدد متزايد من رجال ونساء الطبقة الوسطى، وهذا فى حد ذاته إضافة إلى «قوة» الهند وزيادة فى نفوذها الدولي
زاد أيضا الاهتمام العالمى بظاهرة مؤسسات الثقافة الصينية التى تفتح أبوابها فى مئات، بل ألوف المدن فى شتى أنحاء العالم، تحت عنوان مؤسسات كونفوشيوس، الهدف طبعا إضافة قوة ناعمة جديدة إلى أرصدة القوة الصينية..
•••
أعود فأقول، الفرصة سانحة لتنشيط اهتمام الرأى العام المصرى بقواه الناعمة لدعمها وتوليد أفكار لقوى ناعمة جديدة.