أحد الأصدقاء كان قد تسلم شقته بدون تشطيب وطلب منى أن أكون معه فى الرحلة التى قرر أن يبدأها بشراء السيراميك. سألته إن كان يعرف تاجرًا معينًا فى الفجالة لديه ما يحتاجه، فقال فى أنفة إن زبائن الفجالة هم التلامذة والمغفلون، أما هو فسوف يذهب إلى سوق الإمام حيث يبيعون من الإبرة إلى الصاروخ بأسعار مهاودة. لم أسترح لفكرة الذهاب لهذا المكان الرث، لكنى طاوعته. كان السوق مزدحمًا كأنه يوم الحشر، والتجار يصطفون فى دكاكين خشبية متلاصقة كما يفترش بعضهم الأرض، والبضاعة كانت كل شىء وأى شىء. سألت صديقى إذا كان صحيحًا ما يقال عن البضائع المسروقة التى يمتلئ بها السوق، فقال لى إن سوق الحرامية موجودة فى إمبابة، أما هنا فالبضائع سليمة إلا فيما ندر! لم أكن أعرف حجم (فيما ندر) هذه لكنى مضيت معه نتجول فى المكان حتى وصلنا إلى تجار السيراميك. وقف عند أحدهم وسأله عن الأنواع وهل كلها فرز ثانى وثالث أم يوجد فرز أول. كانت ملامح التاجر مخيفة وبوجهه آثار قديمة لضربة سكّينة، لكنه تعامل معنا بذوق وقال إن كل الأنواع موجودة حسب طلب الزبون. ظل صديقى يتفحص البضاعة بعين خبير وأخيرًا استقر على النوع الذى راقه وأخرج ورقة وقلما وأخذ يحسب الكميات المطلوبة ليعرف كم كرتونة سيحتاج. بعد ذلك قام عمال المحل بتحميل الشحنة على سيارة نصف نقل وسار سائقها خلفنا حتى وصلنا إلى البيت وتم تفريغ الحمولة داخل الشقة.
بعد يومين تلقيت مكالمة من صديقى الذى كان فى حالة غضب عارم. قال: أتيت بالعامل الذى سيقوم بالتبليط فأخبرنى بأن هذه الكمية لا تكفى سوى نصف الشقة فقط.. ولما أخبرته بأننى أحضرت الكمية كما طلبها منى طبقا للقياسات فاجأنى بأن التاجر ولا شك قد خدعنى وقام بتحميل نصف الكمية فقط!
ذهبت مع صديقى الساذج الذى كان يصور نفسه خبيرا فى دنيا المقاولات والتشطيبات إلى التاجر، وبعد السلام والتحية شرحنا له أن ثمة خطأ قد حدث وأن بقية الطلبية لم يتم تحميلها. توقعنا أن يعتذر ويصحح الخطأ، لكن المفاجأة أن الرجل الذى كان ودودًا قبل يومين استحال حيوانا ضاريا بمجرد أن تفوهنا بالمطلوب، فزعم أننا تسلمنا الكمية كاملة وأنه لا يريد أن يرى وجوهنا مرة أخرى فى المحل. قال هذا ثم أخذ يصدر أصواتا بذيئة متعجبًا من زبائن آخر زمن، وزادت ثورته فأخذ يسب للسيدة والدة السيراميك والسيد والده! اجتمع العمال والسائقون وأخذوا يهدئونه وهم يستعيذون بالله من «البلاوى» التى يقذف بها الزمن على الآمنين من أمثالهم!
خرجنا من المحل ونحن فى أشد حالات الذهول ولا نكاد نصدق ما سمعناه من الرجل.. إنه ليس لصًا فقط، لكنه فاجر أيضًا وفى غاية الشراسة والإجرام، وإذا أضفناه إليه عماله والسائقين نكون بإزاء عصابة حقيقية.
لكن بينما نقف مرتبكين على باب الدكان دخلت امرأة تشبه تحية كاريوكا فى «شباب امرأة» تحوطها زفة من نساء ورجال، ودون أن تلقى السلام شرعت تقذف من فمها شتائم للرجل صاحب المحل الذى فعل معها نفس ما فعله معنا. أمسكت به من ياقة القميص وأخذت تهزه هزًا عنيفًا قائلة: أنت تغشنى وتخدعنى يا راجل يا متكرتن يا مِنطاو يا بجاتى؟ بدا على الأخ الذى تعامل معنا بفظاظة قبل قليل أنه أُخذ بالمفاجأة، وحتى عماله الحيوانات وقفوا صامتين. بعد جهاد تخلص من قبضة المرأة وابتعد وهو يلهث قائلا: أنت غلطانة يا ست ولا بد أنك أخطأت فى عد الكراتين. زادها كذبه غضبًا فتحول صوتها إلى صراخ وشتائم فهمتُ أقلّها لكن غاب عنى تفسير معظمها. كانت شتائم غريبة لا تتضمن ما نعرفه من أوصاف ولعنات للأم والأب، لكنها خرجت من قاموس جديد شديد الغرابة بالنسبة لى، ويبدو أنه أثناء غيابى خارج البلد لسنوات ظهرت مصطلحات جديدة كان وقعها على التاجر النصاب شديدا، خاصة عندما وصفته بأنه سنديرس ومستكانس وبُفتيكة، كما أضافت أنه مارع وعامل نفسه حاتى!. كان من نتيجة الدخلة القوية هذه أن الحرامى استسلم وطلب منها أن تحضر السيراميك وتأخذ فلوسها.. وقد كان. لقد مزجت المرأة شتائم تقليدية معروفة بأخرى مستحدثة، ومن الواضح أن هذه اللغة سببت للرجل هلعًا وكأنها تحمل إلكترونات غامضة وديناميات تدفع للاستسلام!
كنا قد ابتعدنا عن المحل لكن ما زلنا مأخوذين بالمشهد الذى رأيناه.
وبعدين.. هكذا سألتُ صديقى. قال: ليس أمامنا سوى البوليس لنستعيد حقنا. قلت له: البوليس سيحتاج إلى دليل، والوضع سيكون كلمتنا ضد كلمته. قال صديقى: هل استمعت إلى الكلام الغريب الذى قالته للرجل؟ قلت: نعم استمعت وتعجبت، وأكثر ما أثار دهشتى أن الحرامى لم يخش من الرجال الذين كانوا معها، إذ إن عصابته كفيلة بهم.. لقد روّعته المرأة بكلامها الذى لم نفهمه لكن كان وقعه عليه شديدًا فخارت قواه وغادرته غباوته فاستسلم. قال كأنما يحدث نفسه: يعنى لو رجعت وقلت له: يا راجل يا متكرتن يا مارع يا بجاتى، ممكن أسترد فلوسى؟ ضحكت من التهيؤات التى انتابته وقلت له: المشكلة أنه لن يصدقك، فشتائمك سوف تنقصها المصداقية والأصالة وسيبدو عليك أنك تهذى، أما المرأة فكانت تشتم وهى تؤمن بما تقول.. أنت مثلًا عندما تقول له يا راجل يا مِنطاو قد يغلبك الضحك من غرابة الكلمة، أما هى فقد كانت متأكدة أنه رجل مِنطاو فعلا!