السؤال الذى حتما يلح اليوم على حكومات الشرق الأوسط هو أين سيتوقف جنون حكومة اليمين المتطرف فى إسرائيل؟
فحرب الإبادة فى غزة تدخل مرحلة إجرامية جديدة بعمليات عسكرية واسعة فى المدن وبأوامر إخلاء المبانى والمنشآت وبتهجير المدنيين داخل القطاع. وبينما تتواصل الاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار هنا والمفاوضات السياسية الجارية هناك، يتصاعد الكر والفر بين إسرائيل والحوثيين من خلال المسيرات والصواريخ.
وفى موقع المتن من كل هذا، يستمر الإفشال المتعمد من قبل حكومة بنيامين نتنياهو لكافة مساعى الوساطة والتفاوض من أجل إنهاء الحرب فى غزة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والإفراج عن أسرى فلسطينيين. وبكل ما تحمله من اعتداء على سيادة دولة مستقلة وتهديد للأمن الإقليمى وخرق لقواعد القانون الدولى، ليس فى الغارات الإسرائيلية على العاصمة القطرية الدوحة والتى استهدفت قتل القيادة السياسية لحركة حماس سوى الرسالة الأكثر وضوحا من جانب نتنياهو ووزراء اليمين المتطرف فى تل أبيب بكونهم غير مرحبين بجهود الوسطاء وغير معنيين بالتفاوض ومن ثم لا يريدون إنهاء الحرب فى غزة. فمن يرحب بجهود الوسطاء لا يعتدى على أراضيهم وينتهك سيادتهم وأمنهم، وهذا هو ما تجسده الغارات الإسرائيلية على عاصمة الوسيط القطرى. ومن يتفاوض بحثا عن إنهاء الحرب ووقف لإطلاق النار واستعادة رهائنه من عدوه لا يحاول قتل مفاوضى عدوه، وهذا تحديدا هو ما تمثله محاولة حكومة نتنياهو تصفية قيادة حماس.
• • •
إسرائيل اليوم هى دولة ذات سلوك خارجى مارق تهدد عدوانيتها المتصاعدة وغطرستها العسكرية غير المحدودة الأمن الإقليمى، وتفجر صراعات عنيفة وسباقات تسلح فى شرق أوسط يعانى غيابا مزمنا للاستقرار والتنمية المستدامة، وتقوض اتفاقيات السلام القائمة بينها وبين بعض الدول العربية وتحد بشدة من فرص تطبيعها للعلاقات مع دول عربية أخرى، وتضع فى التحليل الأخير مصالح شعبها فى الوجود الآمن فى جوار غير معادٍ تحت وطأة تحديات خطيرة للغاية.
فحرب العامين فى غزة وإن أضعفت حركة حماس عسكريا وسياسيا وجعلت من عودتها إلى حكم القطاع على النحو الذى مارسته قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أمرا مستبعدا، إلا أنها لم تحقق أهداف إسرائيل كما تعرفها حكومة بنيامين نتنياهو.
لم يعد كل الرهائن الإسرائيليين إلى أسرهم، ولم تدمر حماس بالكامل، ولم يستسلم أكثر من مليونين من الفلسطينيين إلى ضغوط التهجير إلى خارج غزة وما زالوا يتشبثون بأرضهم على الرغم من حرب الإبادة التى قتلت منهم عشرات الآلاف وتعرض حياتهم وأمنهم يوميا لأخطار وجودية. بل إن حكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب لا تملك تصورا واضحا لكيفية إدارة شئون القطاع بعد أن تنتهى الحرب (نقاشات اليوم التالى)، وليس لديها، بعيدا عن الترويج لعودة الاحتلال وجرائم التهجير، إجابات محددة فيما يخص قضايا الأمن واحتياجات السكان والخدمات الأساسية.
• • •
وإذا كان الهدف الإسرائيلى هو تصفية القضية الفلسطينية ومنع الشعب الفلسطينى من ممارسة حقه المشروع فى تقرير المصير وإعلان وفاة حل الدولتين بالتوسع فى جرائم الاستيطان والضم فى الضفة الغربية وبالإبادة والتهجير فى غزة، فإن حصيلة عامين من الحرب هى تعاطف عالمى كاسح مع الفلسطينيين وإدانة أخلاقية وسياسية شاملة لإسرائيل وتوجه إقليمى ودولى لإحياء حل الدولتين بالاعتراف بدولة فلسطين والتوافق الإقليمى والدولى أيضا على حتمية إنهاء احتلال الأراضى الفلسطينية.
وإذا كانت حكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب قد تباهت يوما بكون اتفاقيات السلام التى وقعتها مع بعض الدول العربية لا تلزمها لا بحل الدولتين ولا بمبدأ الأرض مقابل السلام وادعت أن علاقات الصداقة معها تمثل حافزا كافيا لجوارها لتجاهل القضية الفلسطينية والتخلى عن دعم الفلسطينيين، فإن بنيامين نتنياهو والمتطرفين الآخرين يتحركون اليوم فى بيئة إقليمية ترفضهم وترى فى عدوانيتهم وغطرستهم العسكرية إما تقويضا لاتفاقات السلام الموقعة مع إسرائيل وهذا هو حال مصر والأردن والإمارات والبحرين أو انقلابا على فرص لاحت من قبل لتطبيع العلاقات وهذا هو حال السعودية.
• • •
عندما تعتمد جامعة الدول العربية بمبادرة مصرية سعودية مجموعة من إجراءات الأمن الجماعى يتصدرها الانتصار لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير وفى الدولة المستقلة وتتضمن النص على عدم التعاون مع إسرائيل، عندما تعلن دولة الإمارات العربية المتحدة أن استمرار إسرائيل فى سياسات الضم والاستيطان فى الضفة الغربية يمثل تنصلا من الاتفاقات الإبراهيمية الموقعة بين الطرفين، عندما يجمد الأردن اتفاقية وادى عربة وتطالب قطر بعقوبات دولية إزاء السياسة المارقة للحكومة الإسرائيلية، يصير حديث نتنياهو عن علاقات السلام المتطورة التى تجمع بلاده والدول العربية وعن كون صداقة إسرائيل هى حافر التطبيع دون اعتبار للقضية الفلسطينية ولحل الدولتين عنوانا لحالة إنكارية تسيطر عليه وعلى متطرفى حكومته وتعبر عن الوجه الآخر للغطرسة العسكرية التى يمارسونها.
بين حرب الإبادة فى غزة والاعتداءات اليومية على لبنان وسوريا والمسيرات والصواريخ المتبادلة مع الحوثيين فى اليمن، وما تخللها من حرب الـ١٢ يوما بين إسرائيل وإيران وما حدث مؤخرا من عدوان على قطر، لم يعد ثمة خطر على الأمن الإقليمى والاستقرار فى الشرق الأوسط لا يرتبط بإسرائيل.
فإيران، وهى الدولة الأخرى التى دأبت على توظيف الأداة العسكرية فى سياستها الخارجية وإن على نحو غير مباشر عبر وكلائها من الميليشيات، تعيد حاليا، وبعد خسائرها الفادحة فى حرب الـ١٢ يوما وخسائر وكلائها بفعل الضربات الإسرائيلية، ترتيب أولوياتها وتنفتح على المزيد من التقارب مع دول الخليج ومصر وتركيا وعلى المزيد من الدبلوماسية فيما خص إدارة ملفها النووى إن مع الوكالة الدولية للطاقة النووية أو مع الاتحاد الأوروبى أو الولايات المتحدة الأمريكية. إيران، إذا، تغير على نحو ملموس من سلوكها الإقليمى وتبتعد تدريجيا عن استخدام وكلائها لتهديد أمن الشرق الأوسط.
أما إسرائيل، فقد صارت مصدر الخطر الأكبر الوارد على الأمن الإقليمى إن بعدوانيتها المتصاعدة وإفلاتها من العقاب بسبب الحماية الأمريكية أو برفضها لإنهاء الحرب فى غزة وتنصلها من مبدأ الأرض مقابل السلام وحل الدولتين وسعيها لتصفية القضية الفلسطينية أو بتقويضها لاتفاقات السلام الموقعة بينها وبين بعض الدول العربية أو بمراكمتها للسلاح وتفجيرها لسباق تسلح لا يستطيع الشرق الأوسط تحمله بأى حال. وإزاء جنون حكومة اليمين المتطرف فى تل أبيب، لم يعد أمام العرب والإيرانيين والأتراك سوى التقارب الأمنى والسياسى والبحث عن إجراءات دبلوماسية تحتوى المروق الإسرائيلى المحمى أمريكيا.