على شبكة «سى إن إن»، وصفحات «نيويورك تايمز»، ظهر أحمد الشرع، المعروف باسم أبو محمد الجولانى، ليتحدث للرأى العام الأمريكى والعالمى عن مآسى النظام السورى، ورؤيته لمستقبل سوريا المحررة من حكم بشار الأسد. وبعدما فضلت دول الغرب لعقود طويلة الشيطان الذى يعرفونه، على عدم اليقين من نظام جديد قد يأتى بشيطان لا يعرفونه، يبدو أن الغرب لم يكن أمامه بديل عن التعامل مع الجديد القادم من جماعة إسلامية ذات صبغة متطرفة.
اختارت «سى إن إن» و«نيويورك تايمز» أن يكون محاورا الجولانى من النساء، إذ تحدث إلى جمانة كرادشة من «سى إن إن»، كما تحدث مع رجاء عبد الرحيم من «نيويورك تايمز». ظهر الجولانى كرجل دولة عاقل ومعتدل، ولا أتصور أن تكون المحاورتان من السيدات أمرا عفويا، بل هى خطوة فى إطار تجميل القادم الجديد الذى لا يعرف الرأى العام الغربى عنه إلا أنه شخص متهم بالإرهاب، ينال 10 ملايين دولار من يستطيع النيل منه، أو القبض عليه.
جدير بالذكر أن الجولانى انفصل عن داعش فى عام 2012 وعن تنظيم القاعدة فى عام 2016 ويقول إنه يريد حكومة متنوعة تتسامح مع الأقليات. وبعد أيام من ظهوره، سقطت دمشق فى أيدى جماعة الجولانى، هيئة تحرير الشام، وأبدت واشنطن استعدادها للحكم على الحكام الجدد من خلال أفعالهم لا أقوالهم، وأنها مستعدة للتعامل مع كل الفصائل السورية. وبدأ الجولانى تحركه فى دمشق بزيارة تاريخية للمسجد الأموى بالمدينة التى كانت يوما عاصمة الخلافة الإسلامية.
• • •
قد لا يستوعب العقل الجمعى العربى حجم التغيرات والصدمات المتلاحقة التى تشهدها دوله، والمنطقة، والتى لا يبدو أنها ستتوقف فى أى وقت قريب. وبعد أكثر من نصف قرن من بدء حكم عائلة الأسد فى سوريا، رحل بشار الأسد - ديكتاتور سوريا - تاركا شعب سوريا بملايينه الـ23 لمصير مجهول قد لا يشاركون فى اختياره.
من الطبيعى أن يتخوف السوريون والسوريات من الغد المجهول رغم سعادتهم المبررة برحيل بشار الأسد ونظامه. كيف للشعب السورى ألا يتخوف وقد شاهد ما حدث لمجتمعات متشابهة أسقطت ديكتاتورياتها، مثل صدام حسين فى العراق، ومعمر القذافى فى ليبيا، وعلى عبد الله صالح فى اليمن، ولم تعرف إلا الفوضى والمزيد من العنف بدلا من السلام والاستقرار؟
تضيف حقيقة أن القوة التى أطاحت إلى درجة كبيرة بالأسد هى هيئة تحرير الشام، الجماعة المصنفة إرهابيا من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، تضيف هذه الحقيقة المزيد من التخوف من المستقبل القريب. لكن لأسباب إنسانية وجيوسياسية على حد سواء، من الخطأ أن يندم السوريون والسوريات على سقوط نظام الأسد. إذ لقى أكثر من 500 ألف شخص حتفهم فى سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية فى عام 2011، وقُتل أكثر من 90% من الضحايا على يد النظام السورى وحلفائه الأجانب. كما عجت السجون بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين حيث كان التعذيب والقتل أمرا روتينيا، ويتندر الشعب السورى على أن بشار قتل عددا من شعبه أكبر حتى من والده حافظ الأسد.
الحرب الأهلية السورية دفعت أيضا لفرار عدة ملايين إلى الخارج، وهو ما أدى إلى أزمة لجوء زعزعت استقرار الاتحاد الأوروبى، وولدت توترات شديدة فى تركيا. كما أصبحت سوريا فى عهد الأسد مركزا للجريمة العابرة للحدود وتجارة المخدرات. وأخطأت الكثير من الدول العربية قراءة توازن القوى فى الداخل السورى خلال العام الأخيرة. إذ سارعت المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وغيرهما من الدول، إلى إعادة فتح سفاراتها فى دمشق فى وقت سابق من هذا العام، والتصالح مع الأسد فى الوقت الذى كانت قبضته على السلطة على وشك الانهيار.
يمثل سقوط الأسد ضربة قوية لكل من روسيا وإيران. وبعث التدخل العسكرى الناجح لفلاديمير بوتين فى سوريا فى عام 2015 برسالة مفادها أن روسيا عادت كقوة عالمية خاصة بعدما أسس قواعد جوية وبحرية طال انتظارها شرق البحر المتوسط. وشجع النجاح الروسى فى سوريا على تنفيذ فكرة غزو أوكرانيا فى فبراير 2022. على النقيض من ذلك، يؤكد تراجع موسكو وفشلها فى سوريا كيف أن الحرب فى أوكرانيا قد استنزفت موارد روسيا، أو أننا بصدد صفقة مهد لها وصول دونالد ترامب للحكم تترك لروسيا بعض أراضى أوكرانيا مقابل تخليها عن الأسد وبعض نفوذها فى سوريا. وما تخشى منه أوروبا هو أن تتحول سوريا إلى دولة أكثر فشلا وأكثر تدفقا للأشخاص اللاجئين إليها، كما تخشى الدول الإقليمية والولايات المتحدة كذلك تحول سوريا إلى ملاذ آمن للإرهاب. وبعد أن فقد حزب الله الكثير من قوته فى لبنان ولم يعد قادرا على التأثير على الأحداث داخل سوريا، ومع محدودية تأثير الهجمات الصاروخية الإيرانية ضد إسرائيل، ومع تراجع، وربما تلاشى النفوذ الإيرانى داخل سوريا، يخشى الغرب من سعى طهران لتأمين نفسها بالتسريع فى تسليح جيشها بالأسلحة النووية.
• • •
قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية، اجتمع سرا فى القاهرة عام 1916 جورج بيكو القنصل الفرنسى فى بيروت، مع السير مارك سايكس المندوب السامى البريطانى لشئون الشرق الأدنى، إضافة لمندوب روسى، وأسفرت مجموعة من الاجتماعات عن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط - الخاضع للسيطرة العثمانية - إلى مناطق نفوذ فرنسية وأخرى بريطانية.
ما حدث عام 1916 يتكرر اليوم فى عملية متواصلة منذ أعوام قليلة فى صور مختلفة وإن كانت تهدف لما هدفت إليه خطط الماضى من إعادة رسم خريطة جديدة لدول وكيانات المنطقة. ولا يبدو أن هناك اختلافا بين خريطة الأمس وخريطة اليوم، حيث كان العرب مفعولا به فى الحالتين، إلا أنه من العجيب أن تساهم الشعوب العربية فى تشكيل خرائط الغد بدماء الآلاف وربما الملايين من أبنائها وبناتها، خاصة مع تمسك النخب العربية بتبديد أى آمال فى الحصول على حرية أو عدالة ظلت غائبة لعقود طويلة.
فى النهاية، لا يجب أن نرى انهيار نظام عائلة الأسد فى سوريا سببا للحداد على الرغم مما يحمله من مخاطر، فربما يخلق هذا السقوط فرصة لسوريا أفضل، وشرق أوسط أكثر استقرارا.