بحلول هذا الأسبوع، تكون قد مرت مائة يوم من الحرب الإسرائيلية على غزة بعد هجمات حماس غير المسبوقة فى السابع من أكتوبر الماضى، اليوم الذى مثل تحولا جديدا فى منطقة الشرق الأوسط والذى سيتواصل تأثيره لسنوات وربما لعقود قادمة!.
منذ مائة يوم أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية تشكيل حكومة مصغرة معلنا أن إسرائيل فى حالة حرب، وأنها لن تتراجع عن هذه الحرب قبل أن تحقق هدفين؛ الأول هو محو حماس من الوجود وتدمير بنيتها العسكرية وقتل قيادتها السياسية وشبكة أنفاقها فى القطاع، والثانى هو استعادة كل المخطوفين من المواطنات والمواطنين الإسرائيليين، وفى الأسبوع الأول من الحرب، أعلن نتنياهو أنها قد تستمر لشهر أو اثنين حتى تحقيق هذه الأهداف، لكن الآن ــ وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر ــ لم تحقق إسرائيل أهدافها وتتواصل الحرب للشهر الرابع على التوال بلا أفق واضح لموعد انتهائها!.
• • •
بعد مائة يوم لم تعد إسرائيل كما كانت على الإطلاق، بين تخبط سياسى وارتباك مخابراتى، وانكشاف عسكرى وانقسام مدنى، أصبحت إسرائيل عارية ليس فقط أمام شعبها ومحبيها، لكن أيضا أمام الرأى العام العالمى، الذى بدأ يدرك مع مرور الوقت أن إسرائيل ليست راغبة ولا قادرة على إنهاء هذه الحرب بين حسابات سياسية متضاربة وعجز عسكرى كبير! ومع الدعوى التى رفعتها دولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وبغض النظر عن قرار المحكمة فى النهاية، فإن جرائم حرب جيش الاحتلال تتكشف يوما بعد آخر، ويكشف الساسة فى الدولة العبرية عن قبحهم وتطرفهم يوما بعد يوم، بشكل جعل حتى أشد مؤيدى إسرائيل فى النخب السياسية الحاكمة فى الدول الغربية يظهر نقدا صريحا لإسرائيل ويطالبها بإنهاء الحرب أو على الأقل تحديد إطار زمنى لإنهاء العملية العسكرية الغاشمة!.
بعد مرور مائة يوم على الحرب، تم تدمير غزة بالكامل، وفقد أكثر من ٢٣ ألف شخص حياتهم معظمهم من السكان المدنيين خاصة الأطفال والنساء والعجزة، لكن ما زالت إسرائيل بعيدة عن تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وسط اتهامات صريحة لنتنياهو بالأنانية كونه يمد أمد الحرب لحماية نفسه وحزبه من المساءلة عن الفشل فى السابع من أكتوبر على حساب شعبه ودولته! تشير التقديرات المتضاربة من الجانب الإسرائيلى أن بين ٢٥٠٠ إلى ثلاثة آلاف من الشعب الإسرائيلى فقدوا حياتهم منذ بداية الحرب، منهم على الأقل ٥٢٠ من العسكريين، ومن ضمنهم ١٨٧ جنديا وضابطا منذ بداية التوغل البرى فى القطاع! كذلك تم تهجير عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين الإسرائيليين من شمال البلاد حيث الحدود مع لبنان، ومن جنوب البلاد حيث الحدود مع قطاع غزة! هذا بالإضافة إلى إصابات بالغة وصلت لحد الإعاقات الدائمة للجنود والمواطنين، فضلا عن الصدمات العصبية والأمراض النفسية بين آلاف آخرين!.
خلال مائة يوم أصبحت إسرائيل تحارب على أربع جهات مختلفة، مع حزب الله فى الشمال، وغزة فى الجنوب، والضفة فى الغرب، والحوثيين فى مدخل البحر الأحمر، وعلى عكس الادعاءات الإسرائيلية المتكررة فلم يثبت بعد قدرة إسرائيل على الحرب فى أكثر من جبهة متوازية، وبحسب الصحفى الأمريكى، دان رافيف، والمحلل العسكرى الإسرائيلى، يوسى ميلمان، فى مقالهما المعنون «دروس إسرائيل المريرة من حرب حماس بعد ثلاثة أشهر» والمنشور فى الـ «تايم» يوم الحادى عشر من يناير الجارى فإن إسرائيل فى أضعف حالتها منذ ١٩٤٨! بحسب المحللين أيضا فإن الوحدات الخاصة الإسرائيلية والمفترض أنها من الأفضل عالميا، والمعنية بتحرير الأسرى من الإسرائيليين ثبت عدم قدرتها على تحقيق الهدف بعد أن فشلت فى تحرير أى أسير، واكتفت باستعادة أسيرة واحدة فى ظروف لم تبدو أنها قتالية!.
• • •
كذلك، فبعد مرور كل هذه الأيام على بداية الحرب، فإن السياسة الإسرائيلية فى أوج تخبطاتها، وسط أنباء عن خلافات داخل مجلس وزراء الحرب، وأخرى بين نتنياهو وبين قياداته العسكرية والأمنية، وثالثة بين بعض الأجنحة داخل المؤسسات الأمنية نفسها، ورابعة بين المعارضة والسلطة، وخامسة بين السلطة والرأى العام الذى بدأ يظهر تشككه فى قيادة نتنياهو للبلاد، رغم التأييد الكبير الذى كان يتمتع به فى الأيام الأولى للحرب!.
المؤكد أنه وبعد مرور مائة يوم على السابع من أكتوبر، فإن أحد أهم مشاكل إسرائيل هى أنها بلا إجابات محددة على عشرات الأسئلة المطروحة على قيادتها الأمنية والعسكرية! متى تنتهى الحرب؟ متى سيتم تدمير حماس، وكيف؟ متى وكيف سيتم استعادة كل الأسرى الإسرائيليين داخل غزة؟ ما هو الموقف من السلطة الفلسطينية؟ متى يمكن إعادة المواطنين الإسرائيليين المهجرين داخليا إلى بيوتهم؟ كيف سيتم حكم غزة بعد الحرب؟ كيف سيتم التعامل مع الضغوط الدولية بشأن إنشاء دولة فلسطينية موحدة؟ متى سيبدأ التحقيق بشأن الفشل العسكرى والأمنى يوم السابع من أكتوبر؟ ما هو مستقبل الدولة ذاتها وسط تهديدات جمة من كل الجبهات؟ متى تتم انتخابات جديدة فى البلاد؟ ما هو مستقبل العلاقة مع المحكمة العليا الإسرائيلية بعد صراع نتنياهو مع الأخيرة خلال العام الماضى برمته؟ كل هذه الأسئلة ما زالت بلا إجابات عند القيادات الإسرائيلية، لأنها ببساطة لا تعلم الإجابة ولا تريد الدخول فى التفاصيل، إما لأنها لا تملكها، أو بسبب الانقسامات الحادة داخل الحكومة ومؤسساتها الأمنية!.
فى خضم كل هذا الانكشاف والعجز الإسرائيلى تتزايد الضغوط الدولية على تل أبيب يوما بعد آخر، فدول الاتحاد الأوروبى فضلا عن الولايات المتحدة أصبحت تدفع فاتورة الحرب الإسرائيلية سواء تلك الاقتصادية أو السياسية، فضلا عن فواتير أخرى أخلاقية وقانونية، أصبحت تهدد الاستقرار فى الغرب بشكل غير خافٍ على أحد، وتتزايد الأصوات داخل الغرب يوما بعد الآخر متململة من اضطرار هذه الدول دفع كل هذه الأثمان من أجل الدولة العبرية!.
• • •
بعد مرور مائة يوم على هذه الحرب المسعورة، أصبح من الواضح أن قدرة إسرائيل العسكرية تستطيع التدمير العشوائى، والانتقام الممنهج، لكنها لا تستطيع تحقيق الأهداف السياسية أو العسكرية، فضلا عن أنها لا تستطيع توفير الأمن لمواطنيها ومواطناتها! بعبارة أخرى، برهنت هذه الحرب أن إسرائيل تستطيع القتل لا الردع، تستطيع الانتقام لا توفير الأمن، تستطيع أن تمارس القوة دون تحقيق الاستقرار، انكشف كل هذا فى دولة واحدة من أكبر كوابيسها أن تفقد الهيبة والأمن والقدرة على الردع! بعد مائة يوم من الحرب على غزة، تعرت إسرائيل أمام مواطنيها ومواطناتها وأمام العالم، كما لم تتعرَ من قبل!.
مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى اليابانى، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر
الاقتباس:
برهنت هذه الحرب أن إسرائيل تستطيع القتل لا الردع، تستطيع الانتقام لا توفير الأمن، تستطيع أن تمارس القوة دون تحقيق الاستقرار، انكشف كل هذا فى دولة واحدة من أكبر كوابيسها أن تفقد الهيبة والأمن والقدرة على الردع!.