كتب لى صديق أحترم آراءه فى السياسة والأخلاق وتجاربه فى حقل الصحافة. يقول فى رسالته: إن إحساسا تسرب إليه يشى بأننى غير مطمئن كل الاطمئنان إلى نوايا الرئيس باراك أوباما. يعتقد أننى لا أشارك كثيرا من الزملاء والمعلقين من العرب وغيرهم حماستهم للرئيس الشاب الأسمر اللامع باراك أوباما.
لم أكن أعرف أن شيئا من قلة الحماسة فيما أكتب عن أمريكا وأوباما تسرب إلى قارئ. وعلى كل حال لا أنكر أن حماستى لهذا الرجل عندما كان مرشحا لم تصل يوما إلى حد الانبهار، ولذلك لم يحدث أن أغفلت أحد أو بعض معايير التحليل النقدى لظاهرة سياسية كانت فى رأيى بالغة الخطورة والأهمية. هذا الإغفال حدث لكثيرين ممن يكتبون فى السياسة الأمريكية ويتحدثون عبر الفضائيات أو يقدمون البرامج السياسية فى القنوات الأوروبية والأمريكية. أعجبتنى فى الرجل خصائص عديدة، وتوقفت طويلا أمام مسيرة صعوده والظروف التى أنضجته سياسيا وقرأت عن مرحلة انشغاله بالعمل العام بين فقراء شيكاغو من أقرانه السود. ومع ذلك لم أتخل فى لحظة واحدة عن عادة بذر الشكوك فى المسلمات التى تطرحها التطورات، والتأنى فى الحكم على القادة السياسيين عموما والأمريكيين خاصة الذين يجرى ــ وباهتمام شديد ــ «صنعهم ثم تعليبهم قبل تسويقهم». لم أقلل يوما من أهمية الدور الذى تلعبه شركات الإعلان فى صنع قادة أمريكا. بل على العكس جعلتها هواية من هواياتى، أن أقارن بين وضع رجل السياسة الأمريكى وبين وضعه السابق على اتخاذ قرار ولُوجه إلى السياسة، سواء كان القرار قراره أو قرار غيره. شتان ما بين الوضعين بل وبين الرجلين بعد أن تغيرت مواصفات أحدهما وقسماته ولون بشرته وعينيه وشعره..
من هم هؤلاء الرجال الذين جاءوا بأوباما إلى البيت الأبيض؟. تصادف أننى شاهدت حلقة فى مسلسل يعرض فى قناة تليفزيونية ببريطانيا يعرض للنفوذ الهائل الذى تتمتع به شركات فن الإعلان وخبراؤه، سواء فى مجال السياسة أو الثقافة أو العقيدة الدينية. ليس جديدا هذا النفوذ، فقد نبهنى إليه أستاذ قدير علمنى قواعد علم إدارة الأعمال. كان الدكتور مليكه عريان يحضر معه إلى المحاضرة منتجا من المنتجات ويشرح لنا العلاقة بين حجم مبيعات هذا المنتج وحجم الحملات الإعلانية التى تصاحب عمليتىّ تعليبه وبيعه. كنا فى تلك الأيام نطلق على أى معجون للأسنان اسم كولينوس، رغم أن كولينوس كانت ماركة بين عشرات الماركات، ولكن الإعلان استطاع أن يجعلها مرادفا للمنتج.
تذكرت كولينوس ومليكه عريان وأنا أقرأ للمعلق السياسى جون بيلجر مقالا عن بيوت الإعلان فى شارع ماديسون الشهير فى نيويورك ودورهم فى صنع الرئيس الأمريكى وتعليبه وبيعه. يذكرنا بيلجر بالإعلانات التى كانت تروج للتدخين، وكان مصممو الإعلان ومنفذوه يعلمون حق العلم حجم الخطر الناتج عنه على صحة الإنسان. نعرف الآن وتعرف أمريكا بأسرها أن شركات الإعلان عندما روجت للسجائر كانت تعرض حياة المستهلك للخطر، وبالتالى تتحمل أو يجب أن تتحمل مسئولية مئات الألوف وربما الملايين الذين ماتوا تحت تأثير مفعول هذه الإعلانات. نعرف أيضا أن هذه الشركات يجب أن تتحمل مسئولية الكوارث التى تسبب فيها الرئيس بوش الصغير، فقد صنعته وعلبته قبل أن تبيعه لجماهير الناخبين ليكون رئيسا لأمريكا. من منا لم يقف منبهرا أمام الإعلان عن «رجل مارلبورو» فى صورته التى لم تبرح خيال المدخنين وغير المدخنين على امتداد عقود متتالية.
ما أشبه أوباما برجل مارلبورو. ابتسامة ساحرة وأسنان لا شائبة تشوبها، كأسنان كل مشاهير هذه الأيام، بيضاء وخلابة وأحيانا براقة. كدنا، وبخاصة خلال الأيام الأخيرة، نتعامل مع ظاهرة أوباما كما كنا نتعامل مع رجل مارلبورو بانبهار واقتناع كامل بأن «ماركة أوباما» توحى بالثقة وتدفعنا لشرائها وتفضيلها على غيرها من الماركات. لا أنكر أن جموع الشعب الأمريكى، وربما شعوب أخرى فى أنحاء الكوكب، ساعدت فى رواج ماركة أوباما لحاجتها الشديدة إلى أى شىء يزيح عن صدرها كابوس جورج بوش وكوابيس قادة آخرين فى شتى الدول. ولا ننكر فى الوقت نفسه، ضخامة الحملة الإعلانية التى رافقت ترشيح أوباما وتكلفت مئات الملايين، منها 75 مليونا فقط للإعلانات التليفزيونية، بما جعلها حملة غير مسبوقة فى تكاليفها وتقنياتها وإبداع خبرائها وغير مسبوقة أيضا فى نتائجها. يكفى أنها تحدت مسيرة التاريخ الاجتماعى الأمريكى وجاءت برجل أسود وعائلته إلى البيت الأبيض.
وبعد الفوز تقاسمت شركات الإعلان وأجهزة الإعلام مسئولية بيع الرئيس الجديد، وهى مهمة أصعب من مهمة تسويق مرشح، فما كان وعودا خلابة خلال الحملة أصبح التزامات ثقيلة، وما كان لباقة وفصاحة فى العرض أصبح سياسات وقرارات بعضها غير جذاب وأكثرها مثير للخلاف والشقاق. وما كان فضولا ورغبة فى التعرف والتحقق أصبح محاسبة وتدقيقا وتحقيقا. وما كان إبداعا فى ابتكار أفكار وتسويق أحلام أصبح جهدا متواصلا للإجابة عن أسئلة صعبة. كيف يستقيم مع وعود أوباما تلميح هيلارى كلينتون إلى أن الانسحاب من العراق لن يكون كاملا وشاملا، وأن 70000 من الجنود الأمريكيين سيقيمون على أراضى العراق لسنوات طويلة قادمة؟ هل مازالت المؤسسة العسكرية وجماعات الضغط اليهودية مهيمنة على عمليات صنع السياسة فى البيت الأبيض؟ كيف نفسر الإصرار على فتح جبهة حرب جديدة يسقط فيها يوميا عشرات الضحايا المدنيين وقد وعدتم الناس بتفضيلكم الأساليب الناعمة وكراهيتكم للحرب؟ كيف تبررون استمرار روبرت جيتس فى وزارة الدفاع وهو الشريك المتضامن فى سياسات بوش العدوانية وسكوته على جرائم التعذيب؟ لماذا هذه الاستدارة شبه الكاملة نحو استكمال دائرة الحرب ضد الإسلام؟. هل من تفسير لتأجيل أوباما النظر فى القضية الفلسطينية والموقف من مؤتمر ديربان الثانى والتصعيد ضد إيران غير أنه لا يريد الدخول فى مواجهة مع جماعات النفوذ والضغوط الصهيونية؟.. هل ظهرت خلال المائة يوم علامة مؤكدة على نية أوباما تهدئة مظاهر استمرار الحصار حول روسيا؟ لماذا عاد أوباما عن صلابته التى ظهر بها عندما تصدر الساحة السياسية فى الولايات المتحدة بجملة من الأفكار الشجاعة حول إصلاح الرأسمالية؟ لماذا لم يتمكن أوباما من الاستفادة بشكل مناسب من شعبيته وصورته لتغيير سياسات غير مناسبة لبلاده فى دول أوروبية وروسيا والصين وأمريكا اللاتينية؟ لماذا لا أشعر بالاطمئنان وحولى مطمئنون عديدون؟
أشعر أن جهودا كثيرة تبذل الآن لإقناع الدول العربية النافذة بأن تدفع شعوب العرب جميعا وحكوماتها لتقديم حوافز جديدة لإسرائيل تتناسب وصلابة نتانياهو وكراهيته المعلنة هو ووزير خارجيته للعرب. قيل للمسئولين العرب إن لا شىء يدفع أوباما للتحرك إلا إجراءات وتشريعات جماعية عربية فى اتجاه التطبيع مع إسرائيل غير مرتبطة بأى التزام إسرائيلى مسبق. أوباما يريد الثمن مقدما بحجة أنه غير مستعد للدخول فى مواجهة مع الكونجرس حول القضية الفلسطينية، خاصة أن الكونجرس لا يطالب بأقل من تقديم «مكافأة» من الحكومة الأمريكية والحكومات العربية لإسرائيل على ما تقدمه من خدمات استخباراتية عن إيران وحركات مقاومة عربية وكردية، وعن الدور الذى تمارسه لإثارة المشكلات لروسيا فى جوارها القريب. سيكون محك الاطمئنان من عدمه حجم الضغوط التى سوف يتعرض لها المسئولون العرب، وأعرف أنها بدأت وأسمع أن بعضهم بدأ يعد الرأى العام فى بلاده لعلاقة مع إسرائيل جديدة نوعا وشكلا ومنفصلة عن الحقوق الفلسطينية وجرائم إسرائيل وتهديدها المتصاعد لاستقلال القرار الوطنى فى أكثر من دولة عربية.
أسئلة كثيرة وشكوك مشروعة وحذر مطلوب.