بعد فوزه بأرفع منصب بريطانى بعد رئاسة الوزراء، ألقى كلمة قصيرة بدأها «باسم الله والصلاة على رسول الله ذاكرا فضل والده المتوفى ومعبرا عن أسفه لأن العمر لم يمتد به ليشهد هذه اللحظة الفارقة فى حياة أسرته وابنه، ثم قال إن انتخابه عمدة للعاصمة البريطانية لندن يعنى أنها اختارت الأمل بدلا من الخوف والوحدة بدلا من الانقسام».
كانت هذه كلمات صادق خان فور فوزه فى انتخابات عمدة لندن على منافسه الملياردير البريطانى «جولد شميث» الذى ينتمى لحزب المحافظين الذى يحكم بريطانيا الآن، ليحصل خان على مليون وثلث المليون صوت ويفشل ربيب الحزب الحاكم الانجليزى الأصل فى الوصول إلى مليون صوت رغم إنفاقه الضخم على الدعاية واستخدامه دعايات مغرضة ضد منافسه خان ووصفه بـ«أنه غطاء للإرهابيين».
انتصر صادق المسلم الذى يدين بديانة تختلف عن أغلبية البريطانيين، وينحدر من أصول باكستانية هندية، جاءت أسرته إلى ضواحى لندن الفقيرة فى الستينيات.
انتصر الذى كان أبوه يعمل سائقا لأتوبيسات النقل العام بلندن، وكانت أمه خياطه.
انتصر الذى عمل فى صغره بائعا للصحف وهو صغير، ثم عاملا فى البناء ليساعد أسرته بالمال الحلال والشرف والأمانة.
انتصر الفقير ذو البشرة السمراء على الملياردير صاحب البلد الأصلى ذى البشرة البيضاء.
انتصر صادق رغم أنه كرر مرارا أنه يفخر بأنه مسلم، انتصر لأنه قدم نموذجا مختلفا للإسلام قوامه العدل والبذل والعطاء والكفاءة وعدم العنصرية والأمانة والدقة وعدم التعصب أو الغلو.
انتصر لأنه قد نموذجا مختلفا للإسلام يختلف عن داعش والجماعات التكفيرية أو الميلشيات الشيعية الدموية.
انتصر لأنه يحب الناس جميعا ولا يفرق بين أحد منهم ولا يعرف العنصرية ولا المذهبية، ويخدم الناس جميعا، ولأنه شيعى يحب السنة وأهل الأديان جميعا.
انتصر لأنه وجد فى مجتمع يعلى الحريات ويؤمن بالتعددية والمواطنة.
انتصر لأنه عاش فى مجتمع حى ونابض يختار الأفضل من كل الشرائح ويجدد نخبه باستمرار على أساس الكفاءة لا النفاق، والغطاء لا الموالاة للسلطة، وعلى مبدأ الولاء للوطن لا الولاء للحاكم.
انتصر خان لأنه لم يعش فى مجتمع مغلق لا تتجدد فيه النخب أو تظل نخبه مقصورة على مؤسسات بعينها أو عرق أو دين أو فئة بعينها.
انتصر خان لأنه عاش فى مجتمع يتعامل مع جميع المواطنين على قدم المساواة بدون تمييز مهما كانت أديانهم وأعراقهم وألوانهم وانتماءاتهم وحتى لو كان من حزب يعارض الحزب الحاكم.
انتصر صادق لأنه عاش فى مجتمع لا يصنف الناس من أول ولادتهم وحتى مماتهم «إخوانى ــ سلفى ــ فلولى ــ مواطن شريف موال للحكومة ــ مواطن خائن يعارض الحكومة ولو لمرة واحدة ــ ثورى ــ عميل ــ سنى ــ شيعى..إلخ»، ويظل هذا التصنيف ملتصقا به لا يفارقه حتى نهاية حياته وقد يلاحقه ويحرم أولاده من كل الحقوق بعد مماته.
ولو أن المجتمع والدولة البريطانية كانت تصنف الناس لحرم أمثال صادق فى هذا المجتمع من كل شىء وخافوا من كل شىء.
لقد حكى لى أحد أصدقائى الأطباء أنه سافر لعدة دول عربية فشعر فيها أنه مواطن من الدرجة الثانية، فضلا عن وطنه الذى عذب وسجن فيه، وعندما حصل فى بريطانيا منذ عشرين عاما على الإقامة دون الجنسية شعر أنه مثل البريطانيين الأصليين فى كل شىء، فيقف البريطانى خلفه فى أى طابور ويحصل مثله على أى حق.
انتصر خان لأن الناخب البريطانى لديه وعى وفهم لا تحركه الأيدلوجيات الضيقة ولا يؤزه الإعلام الكاذب ولا تخدعه الصحافة الصفراء، ولا تنفع معه الرشوة المباشرة أو غير المباشرة.
إنه ناخب تربى على الحرية ولم يعرف الذل ولا الهوان، فهو يريد من يخدمه، ويختار الأصلح حتى لو كان مخالفا لدينه ولونه وجنسه وأصوله دون خوف أو وجل.
انتصر خان لأنه خاض معركة انتخابية شريفة لا تعرف التزوير المباشر ولا غير المباشر، ولا تعرف التهديد المباشر أو غير المباشر للناخبين أو المرشحين.
انتصر خان لأنه عاش فى بلد يحترم صوت الناخب وإرادته حتى إن انتخب مسلما فقيرا من أسرة متواضعة له بشرة سمراء ويفخر بأصوله ودينه ولكنه وفى لوطنه بريطانيا التى تعطيه فيعطيها، وتكرمه فيكرمها وتحفظ كرامته فيحفظها بعينه وفؤاده.
انتصر لأنه عاش فى دولة تنال فيها المناصب بالانتخاب أو الكفاءة والهمة والعلم والجدية وليس بالرشوة أو الوراثة أو المحسوبية أو أن هناك وظائف معينة مغلقة على فئات بعينها.
انتصر لكى يجعل المسلمين يصححون نظرتهم إلى الشعوب الغربية ويدركون أن هذه الشعوب لا تعادى العروبة ولا الإسلام، ولكننا فشلنا فى تقديم نماذج الإسلام الجيدة، وقدمنا الدواعش والتكفيريين والمتعصبين والمعتوهين فكريا فلم يستطع الغرب التفرقة بين هؤلاء والإسلام، وخاصة أن هذه النماذج تقدم نفسها للغرب والشرق على أنها نموذج الإسلام الصحيح، وبعضهم يضحك على الشباب الأوربى بجنة الخلافة التى تقيمها داعش وإخوانها وهى فى الحقيقة نارا للتطرف والتكفير والتفجير والكراهية.
انتصر صادق لأنه عاش فى بلد المجتمع فيه أقوى من الحكومة وأكثر فاعلية منها، مجتمع لا يعرف التمييز ولا الاستقطابات الحادة، ولا الكراهية والصراعات التى تصل إلى حد الحرب الأهلية الباردة، مجتمع لا يكون فيه فصيل على كراسى السلطة أبدا، والفصائل الأخرى فى السجون أبدا.
انتصر لأنه لم يعش فى أمة العرب أو العالم الثالث وإلا لدفع الرشوة تلو الرشوة لكى يعيش آمنا، أو ليكون مجرد موظف بسيط همه الحضور والانصراف، أو يستدعى بين الحين والآخر للتفتيش فى رأسه عن أى نية عدائية مفترضة.
وما كان استطاع أن يتعلم تعليما جيدا يؤهله لما صار إليه، فالتعليم فى بريطانيا مجانا ويختلف عن أمريكا باهظة التعليم، وما وجدت أسرته الفقيرة علاجا مثل أرقى الأسر فى بريطانيا، لو كان فى بلاد العرب لشتمه نصف العرب والمسلمين بحجة أنه شيعى، وكأن الشيعى لا حق له فى الحياة فى بلاد السنة والسنى لا حق له فى الحياة فى بلاد الشيعة، وأمجاد يا عرب أمجاد.
انتصر صادق فى أصعب الظروف بعد تفجيرات فى فرنسا وبلجيكا وغيرها ولكن الناخب البريطانى يفرق بين أمثال خان والإرهابيين، وبين الإسلام والإرهاب، وبين المسلم والإرهابى، فلم تؤثر فى الناخب ولا المجتمع الاسلاموفوبيا، إنها درجة عالية من النضج السياسى والاجتماعى قائمة على مبادئ الديمقراطية والحريات والتعددية وقبول الآخر، وهذه المبادئ كلها هى التى أنتجت مثل صادق «العمدة الجديد».
انتصار صادق يعد درسا لكل الدول العربية الغبية التى تتهددها الصراعات الطائفية والحروب المذهبية، فالمهم ليس هوية الذى يحكم، ولكن بماذا يحكم؟ وكيف يحكم؟ هل سيحكم بالعدل والمساواة، أم بالظلم والعسف والتعذيب والطائفية والمذهبية.