فى عام 2004 كانت بورصة مصر تستعد للخصخصة. لا أعنى بالخصخصة هنا برنامج الطروحات الحكومية المعتاد، الذى يأتى فى أعقاب اتفاقات التثبيت والتكيف الهيكلى، التى تعقد مع صندوق النقد الدولى. بل إن البورصة نفسها كانت تعد مشروعًا لتعديل قانون إنشائها وتنظيمها، يسمح لها بالتحوّل من مؤسسة مملوكة للدولة، إلى شركة مساهمة يملكها عدد من الشركات الأعضاء (شركات الوساطة فى الأوراق المالية) تمهيدًا لطرح أسهمها فى اكتتاب أولى للعامة، ثم قيد أسهمها وتداولها فى البورصة ذاتها.
هذا التوجّه الذى تبنّته إدارة البورصة آنذاك، والذى تم إعادة بحثه بمزيد من التفاصيل فى أغسطس 2008، كان اتجاهًا عالميًا تتحوّل خلاله البورصات من ملكية الدولة أو ملكية أعضائها المؤسسين، إلى الملكية العامة. هذا التحوّل فى هيكل الملكية سمح لتلك البورصات أن تواجه التحديات العالمية، وتجتذب مزيدًا من تدفقات رءوس الأموال، وأن تنفتح على فرص الاندماج والاستحواذ مع عدد من البورصات الأخرى حول العالم، لمواجه المنافسة الشديدة فى عالم البورصات النظامية، وتلك المستحدثة فى هيئة منصات شبكية، تعمل بآلية السلاسل المغلقةـ Blockchains. تخفيض تكاليف القيد والإفصاح والتداول والعمليات وأعمال الشركات، كانت هدفًا لمختلف البورصات كأداة مهمة للمنافسة.
كذلك تسعى البورصات الخاصة التى اندمجت فى كيانات أكبر، إلى جذب العديد من الأوراق المالية والمشتقات للقيد والتداول عبر منصاتها، ما يسمح بزيادة سيولة وعمق الأسواق، والتحوّل إلى أسواق ذات كفاءة عالية، مع الاستفادة من إمكانات تطوير النظم والأدوات والآليات والمنتجات المالية.
الطريف أن بورصتى القاهرة والإسكندرية قبل أن تخضع معظم الشركات المقيدة بهما للتأميم، وتتوقف عمليًا عن التداول بفعل القرارات المتخذة بين عامى 1961 و1963، كانتا شركتين مملوكتين لأعضائهما المؤسسين، بما يشبه وضع شركة مصر للمقاصة اليوم. ففى عام 1883 أسست شركة البورصة السلطانية (أو شركة البورصة الخديوية) برأسمال قدره 60 ألف جنيه. أما بورصة القاهرة فقد أنشئت عام 1903 (بعد محاولة فاشلة فى عام 1890) عندما اجتمعت لجنة من السماسرة برئاسة السيد موريس قطاوى، واتخذت البورصة حينها الشكل القانونى لـ«شركة ذات مسئولية محدودة».
• • •
التحوّل من ملكية الوسطاء لأسهم البورصة إلى الملكية العامة، هو المسار الأسهل من الطرح مباشرة من ملكية الدولة إلى الجمهور. تعقّد الوضع القانونى للبورصة حاليًا يجعلها كيانًا مملوكًا للدولة، لكنه ذاتى التنظيم (إلى حد ما). فالحكومة تملك تعيين رئيس البورصة المصرية (كما عدّل اسمها لاحقًا فى القانون) ونائبه وأعضاء من ذوى الخبرة وممثلين عن الحكومة والبنك المركزى. كما تخضع توجهات بورصتنا المصيرية والاستراتيجية للقرار الحكومى، بحكم الواقع والعرف واللوائح والتعليمات والتنظيم. ذلك على الرغم من استقلال مجلس إدارة البورصة -نظريًا- فى اتخاذه للقرارات المتعلّقة بتنظيم القيد والتداول والرقابة على التداول ومراقبة السوق.. إلى غير ذلك من أنشطة السوق الروتينية. لكن حتى هذا النوع من القرارات، شهد تدخلا سافرًا من قبل هيئة الرقابة المالية (خلال فترة رئاستها السابقة)، حيث كانت الهيئة تتدخل لإلغاء العمليات، وفى أعمال الرقابة اللحظية، وتحديد قواعد اختيار الشركات المؤهلة للتعامل عليها بالأنشطة الخاصة.
البورصة متى تحوّلت إلى شركة هادفة للربح، يملكها عدد معتبر من المساهمين، الذين يجتمعون بانتظام فى جمعيات عمومية لاتخاذ قراراتها المصيرية، وتعيين ومحاسبة مجالس إدارتها.. ستكون كيانا جديدا مختلفا، يمكنه مواجهة التحديات العالمية المتجددة بمرونة وديناميكية، واتخاذ قرارات تطوير وتحديث أنظمة التداول والرقابة والإفصاح، على أسس من المنافسة، وبحافز الربحية، ورفع قيمتها السوقية.
البورصة ليست مرفقًا يعبّر عن سيادة الدولة كالوزارات والهيئات السيادية، وليست كيانًا أنشئ ليظل متفرّدًا محتكرًا لخدمات التداول الثانوى! بالعكس، فقانون سوق رأس المال الصادر برقم 95 لسنة 1992 بتعديلاته يسمح بإنشاء بورصات خاصة! لكن أحدًا لم يجرؤ على التحرك بشكل جاد لإنشاء تلك البورصات، لأن قرار الموافقة معقود على الحكومة والهيئة الرقابية، وكلاهما يملك صلاحيات استثنائية فى التعامل مع البورصة المملوكة للدولة، ولن تمتد تلك الصلاحيات عمليًا إلى البورصة الخاصة، التى يملكها المساهمون، ويتخذ قراراتها مجلس إدارة مستقل، لا ولاء له إلا لجماعة حملة الأسهم. فضلًا عن كون شروط إنشاء تلك البورصة ليست سهلة ولا مرنة، كما سيلى بيانه فى نص إنشائها، وليس من المنطقى أن يقدم القطاع الخاص على منافسة الدولة فى سوقها القائم والنشط -نسبيًا- قبل أن ترفع الدولة يدها عن ذلك الكيان، وتتركه لمن هم أكفاء لإدارته.
بالطبع سيكون فى هيكل ملكية البورصة الخاصة حصص كبيرة لمؤسسات مالية وشركات مؤثرة، هذا صحى لعدم شيوع الفوضى فى اتخاذ القرار، ووجود عدد من المالكين الاستراتيجيين الذين يفهمون فى الصناعة، ويعلمون فنون التطوير، دون إخلال طبعًا بحقوق الأقلية التى يحفظها القانون.
• • •
يتم حاليًا تنظيم بورصات الأوراق المالية الخاصة بنص المادة 26 من القانون الصادر برقم 17 لسنة 2018 والمعدّل لقانون سوق رأس المال سالف الإشارة، فيما نصه: «يجوز بموافقة من مجلس الوزراء بناءً على اقتراح مجلس إدارة الهيئة إنشاء بورصات تكون لها الشخصية المعنوية الخاصة فى شكل شركة مساهمة، يقتصر التداول فيها على نوع أو أكثر من الأوراق المالية، ولا يجوز للبورصة مزاولة نشاطها إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من الهيئة. ويصدر مجلس إدارة الهيئة الشروط المطلوب توافرها فى الشركة المساهمة التى يجوز الترخيص لها بنشاط البورصة، على أن تتضمن الشروط والمتطلبات الخاصة بالمساهمين ورأس المال وتشكيل مجلس الإدارة والحوكمة وغيرها من العناصر الفنية والإدارية».
ويصدر مجلس إدارة الهيئة كذلك الضوابط المنظمة للتقدم بطلب الحصول على الموافقة على إنشاء بورصة خاصة، على أن تتضمن تقديم دراسة فنية وإدارية ومالية لإنشاء البورصة، ومدى استيفاء الشروط المشار إليها بالفقرة السابقة. كما يحدد مجلس إدارة الهيئة رسوم الترخيص بما لا يجاوز مائة ألف جنيه…» إلى آخر نص المادة.
هذا النص المعطَّل فعليًا، لن يفعّل إلا بالعودة إلى مسار تحويل البورصة المصرية إلى شركة مساهمة، كما كانت الخطة فى مطلع الألفية الحالية وخلال عقدها الأول. عندها ستنفتح السوق لتضم بورصات خاصة لتداول العقود والمشتقات والسلع والذهب وصناديق الاستثمار.. وستتمكن إحداها على الأقل من الاندماج فى بورصة أجنبية نشطة، بما يعزز من حجم السيولة، وحركة تدفقات رءوس الأموال إلى مصر، عبر مدخلها الاستثمارى الأنسب، المتمثّل فى سوق الأوراق المالية.
• • •
لسنا بدعًا من بورصات العالم، فقد انتشرت حركة الاندماجات والاستحواذات بين البورصات الكبرى فى الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا بداية من عام 2006. ذلك العام الذى شهد استحواذ بورصة شيكاغو للتجارة CME على شركة مجلس شيكاغو للتجارة القابضة مقابل 11,1 مليار دولار. ودفعت خلاله مجموعة بورصة نيويورك ما يزيد على 10,2 مليار دولار أمريكى مقابل شراء أسهم بورصة يورونكست Euronext NV. وفى العام نفسه، استحوذت بورصة نيويورك أيضًا على شركة Archipelago Holdings مقابل 2,26 مليار دولار للاستفادة من آليات التداول الإلكترونى. كذلك استحوذت بورصة "ناسداك" على حصة 15% فى بورصة لندن. أما عام 2007 فقد شهد استحواذ بورصة ناسداك على شركة أومكس OMX AB السويدية مقابل 4,1 مليار دولار، كما استحوذت الأخيرة على مركز دبى المالى العالمى مقابل 3,4 مليار دولار. كما استحوذت مجموعة شيكاغو على نايمكس القابضة فى صفقة بلغت قيمتها 7,56 مليار دولار. كما قامت بورصة نيويورك مع عدد من المستثمرين (منهم شركة جولدمان ساكس) بشراء حصة قدرها 20% من بورصة الهند الوطنية للأوراق المالية مقابل 460 مليون دولار.. والقائمة تطول لتشمل استحواذ بورصة لندن على بورصة ميلان مقابل 1,6 مليار يورو عام 2007، لتبيعها لبورصة يورونكست عام 2021 مقابل 4,4 مليار يورو.
وقد اكتملت عام 2013 عملية استحواذ شركة إنتركونتيننتال للتداول ICE على بورصة نيويورك يورونكست فى صفقة بلغت 10,9 مليار دولار. تلك الصفقة منحت شركة ICE السيطرة على لايف Life، ثانى أكبر سوق للمشتقات المالية فى أوروبا، بالإضافة إلى بورصة نيويورك، التى كانت مركز الرأسمالية الأمريكية منذ بدايتها فى عام 1792. أما يورونكست فتمتلك حاليًا عددًا معتبرًا من بورصات الأوراق المالية والمشتقات والعقود فى كبرى العواصم الأوروبية.
لم تنجح محاولات البورصة المصرية فى الاندماج مع بورصة كوريا الجنوبية قبل عام 2009، كما لم تنجح فى الاندماج مع بورصة وارسو البولندية بعد ثورة يناير 2011. وكان هدف تلك المحاولات هو التوسّع لإنشاء بورصة مشتركة للعقود والمشتقات، تعمل كمركز مالى إقليمى. أسباب تعثّر المفاوضات تحتاج إلى مقالات، لكن السبب الأبرز كان يدور حول طبيعة ملكية البورصة المصرية وأسلوب إدارتها وتعيين قياداتها، الذى كان وما زال معوّقًا لأى نوع جاد من التطوير.
والرهان معقود اليوم على الإدارة الجديدة للبورصة وهيئة الرقابة المالية، لإعادة إحياء مشروع تحويل البورصة المصرية إلى شركة مساهمة، مع التخلّص من ميراث القيود التشريعية التى عكف البعض على وضعها فى سوق المال طيلة عشر سنوات من الفرص الضائعة.. هذا فقط هو أول الطريق نحو سوق جاذبة للاستثمارات، وبوابة عالية السيولة والكفاءة لتخارج الدولة من المشروعات بتقييم سوقى عادل، ومرونة وسرعة فى إنجاز الطروحات الحكومية اللازمة لتسوية الديون وانطلاق خطة الإصلاح.