أثبت فلاديمير بوتين ــ ويستمر يثبت ــ أنه لاعب سياسة دولية من طراز نادر. راقبت عن كثب أداءه فى السياسة الداخلية الروسية خلال سنوات صعوده، كان الأداء متقنا إلى حد بعيد وكان الصعود إلى القمة سريعا ومثيرا. وها هو بعد أقل من عشرين سنة يستطيع أن يفخر بأنه أعاد إلى روسيا الاستقرار، ووضع لها دستورا جديدا، ونجح فى أن يعيد إلى الكرملين الاحترام والهيبة بعد سنوات من سوء الإدارة وفوضى الحكم والتدخل الأمريكى السافر فى جميع شئون روسيا.
ومن مراقبة السياسة الداخلية فى عهده انتقلت إلى متابعة السياسة الخارجية الروسية بقيادته لأصل إلى ما انتهيت إليه خلال الأسابيع الأخيرة، وهو أن الرئيس بوتين أثبت ــ ويستمر يثبت ــ تمتعه بكفاءة قيادية عالية وفهم جيد لذهنية أقرانه من القادة السياسيين ومفردات شخصياتهم وقدراتهم السياسية وطموحاتهم الفردية. أثبت أيضا أنه قادر على أن ينصب نفسه واحدا من أهم القادة المعاصرين الذين استطاعوا تحقيق إنجازات دون أن يلتزموا مبادئ اجتماعية معلنة، أو يتقيدوا بمنظومة أخلاق وقيم ديموقراطية وإنسانية متعارف عليها فى أوروبا خاصة والغرب عامة.
***
لم تكن بدعة فكرة التدخل فى مجتمعات ومراكز القيادة فى الدول الأخرى للتأثير فى عمليات صنع السياسة واتخاذ القرار. بل لعلها كانت على الدوام ومنذ الأزمنة القديمة هى أهم وظيفة تقوم بها أجهزة الاستخبارات تحت مسمياتها المختلفة وكذلك السفارات وغيرها من البعثات الدبلوماسية. كان ــ ولا يزال ــ هو الأداة الأقل كلفة لإسقاط حكومة دولة أجنبية، أو لإثارة اضطرابات وفوضى، أو بث الوقيعة بين الأشقاء وشركاء الحكم فى دول بعينها أو إفساد حياتها السياسية. لذلك لا أتردد شخصيا فى التعبير عن انبهارى بما حققته تطبيقات هذه الفكرة فى الآونة الأخيرة، مع التحفظ الواجب من ناحيتى ورفضى المطلق لمحتواها الأخلاقى. يكفى القول بأن حملة الأنباء المزيفة التى شنتها قوى خارجية على الولايات المتحدة خلال فترة انتخابات المرشحين كلينتون وترامب أثرت فى النظام السياسى الأمريكى، وهو ما فشلت فى تحقيقه حرب شريرة كحرب العراق وحرب غبية كحرب أفغانستان وأزمة اقتصادية كأزمة عام 2007. لا يختلف اثنان على أن أجهزة روسية هى التى قامت بتنفيذ هذه الحملة.
لا يختلف اثنان على أن الضرر الذى أصاب مهنة الصحافة فى العالم بأسره، وأقصد الصحافة الحرة والمستقلة، نتيجة هذه الحملة ونتيجة انسياق الرئيس ترامب نفسه وصحفيين عديدين وراءها، يستحق ما أطلقه عليه مراقبون بالضربة القاضية للمهنة. خرجت المهنة خاسرة ومعها مبدأ هام من مبادئ الحرية ولن تعود كما كانت. كذلك قد لا يختلف اثنان على أن فيضا مماثلا من الأنباء المزيفة يكاد يغرق حملة الانتخابات الجارية حاليا فى ألمانيا. الظنون والشكوك هناك تتبادلها الأطراف والاتهامات الكاذبة تلوكها الألسنة. نسمع عن جرائم ارتكبها مهاجرون جدد ولاجئون ثم يثبت أنها أنباء مزيفة، نسمع عن اتهامات بالفساد غير حقيقية وخلافات لم تقع داخل التحالفات الحزبية وأرقام مبالغ فيها عن شعبية التيارات اليمينية المتطرفة. كل ما يسىء إلى الاتحاد الأوروبى وقيادة ألمانيا له والعلاقات الشخصية غير الودية بين ميركل وترامب يجرى بثه بكثافة غير مألوفة. كل هذا يذكرنا بالحملة التى شنتها الأجهزة نفسها خلال الانتخابات الأخيرة فى فرنسا، ويذكرنا أيضا بالمواجهة «المثيرة للغاية» بين الرئيسين ماكرون وبوتين أمام الصحافة والتليفزيون، وكان ماكرون صريحا فى توجيه الاتهام علانية إلى الرئيس بوتين وأجهزته الإعلامية، وكان دفاع الرئيس بوتين ضعيفا وغير مقنع.
***
الاتحاد الأوروبى ليس فى أفضل أحواله وأوقاته. لا يزال خروج بريطانيا من الاتحاد يتسبب فى نزيف معنوى للطرفين على حد سواء. لا تزال أزمة اللاجئين تقسم الأوروبيين وتزيد من فرقتهم فى وقت هم فى أشد الحاجة إلى التعاون. لا تزال أزمة أوكرانيا معلقة بدون حل والعقوبات الاقتصادية عبء على دول الاتحاد أكثر من كونها عبئا على روسيا. حملة العداء المتبادلة بين تركيا ودول أوروبية وبخاصة ألمانيا تتصاعد فى ظل سحب كثيفة من الأنباء المزيفة تطلق من جميع الاتجاهات، فضلا عن درجة عالية من التهورات الخطابية التركية. لا يزال عدم الرضاء الأوروبى عن ترامب عاملا سلبيا فى العلاقة بين جناحى الحلف، على الرغم من جهود العسكريين الأمريكيين لاحتواء عدم الرضاء من جهة، والضغط على ترامب ليخفف من تأوهاته المعترضة على ميزانية الناتو ومبادئ حرية التجارة وتحسين الظروف المناخية من جهة أخرى. كل هذه الأمور ــ وغيرها غير قليل ــ تصب أرصدة إيجابية فى خانة سياسة الرئيس بوتين الخارجية. بعض هذه الأمور أو أكثرها ربما وقع أو تضخم أو تعقدت حلوله نتيجة تدخل مباشر من أدوات الاختراق التى تستخدمها الكتائب الإلكترونية التى شكلتها حكومة الرئيس بوتين وغيرها من الأجهزة المتخصصة فى تزييف المعلومات وبثها.
***
يصعب إنكار أن الرئيس بوتين يضمن الآن ولاء معظم ــ إن لم يكن كل ــ قادة حكومات دول الجوار. أقول ولاء واحتراما ولا أقول تبعية بمعانى المرحلة السوفييتية للعلاقات مع هذه الدول. استخدم بوتين العنف المسلح فى حالتين على الأقل ليضمن ولاء دول بعينها مثل جورجيا وأوكرانيا أو التهديد باستخدامه مثل دول البلطيق. فى تصورى ــ وتصور آخرين ــ أنه نجح فى تجميد أزمة أوكرانيا لصالح روسيا. بمعنى آخر لا أعتقد أن حكومة سوف تأتى فى أوكرانيا فى المستقبل القريب وتحاول جديا استئناف الحوار للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أو تغازل حلف الأطلسى. أظن أيضا أن علاقات روسيا مع دول شرق أوروبا بدأت تستقر على مستوى جديد. الحب المتبادل بينها غير قائم ولا أحد عند الطرفين يسعى إليه. أقصى الأمانى ألا تطالبها بروكسل بسياسات أو مواقف تجلب عليها غضب موسكو. بعضها، مثل المجر، يسعى لكسب رضاء الرئيس بوتين برفض، أو التلكؤ فى تنفيذ الالتزامات والمبادئ الليبرالية والديموقراطية التى أعلنت تبنيها عندما اختارت الانضمام إلى الحلف الأطلسى والاتحاد الأوروبى.
***
لم يخطئ الذى قال إن الرئيس بوتين مدين ببعض نجاحاته فى ميدان السياسة الخارجية إلى ضعف الولايات المتحدة أكثر من اعتماده على القوة الذاتية لروسيا، الصلبة منها والناعمة. فقط أضيف أن فضلا كبيرا يعود إلى صانع السياسة فى الكرملين الذى عرف كيف يستثمر الضعف الأمريكى ويختار أفضل المواقع التى تنسحب منها أمريكا لتحل فيها روسيا.
عندما أتحدث عن سياسة بوتين فى الشرق الأوسط أتعمد استخدام سوريا مثالا على أولويات المواقع الاستراتيجية فى الشرق الأوسط ونموذجا للمواقع الأشد جذبا للتدخل. كانت سوريا ــ ولا تزال ــ الطاقة الجاذبة لاهتمام صانع السياسة فى مصر كما فى غيرها من دول الجوار والدول العظمى عبر كل العصور. رأت موسكو، كما رأينا ورأى العالم بأسره، كيف أن إدارة الرئيس أوباما لم تحسن التصرف عندما حانت أكثر من فرصة للتدخل لوقف تدهور الأمور فى سوريا، هذا التدهور الذى نتج عن تدخلات غير مسئولة من دول إقليمية وعربية. وقد رأت موسكو، كما رأينا فى مصر بل وفى واشنطن نفسها، أن التوسع فى التدخل الروسى قد يكون أفضل المتاح لوقف انهيار الإقليم بأسره كما أنه قد يكون السبيل، المحفوف بأقل المخاطر وفى الوقت المناسب تماما، لاستعادة مواقع استراتيجية وقواعد عسكرية وسياسية فى قلب الشرق الأوسط.
فى الوقت نفسه، وبالأحرى بعد أن أطمأنت موسكو إلى ثبات مكانتها الاستراتيجية فى سوريا وإلى فاعلية شبكات التعاون والتوازنات التى أقامتها فيها، راحت تطرق أبواب الطالبان فى أفغانستان. لاحظت أن العسكريين الأمريكيين قرروا تنفيذ خطط جديدة تعتمد نفس الفلسفة التى اعتمدتها خطط التسوية فى سوريا، وأهمها الاستفادة من نفوذ قوى إقليمية كالهند مثلا وربما إيران، وإضعاف نفوذ قوى أخرى مثيرة للاضطراب مثل المؤسسة العسكرية الباكستانية. بمعنى آخر اكتشفت موسكو وجود فرصة مثالية أخرى تؤمن أو تستعيد لها دورا فى افغانستان، حيث تتجمع الطرق إلى موانئ الغاز والنفط وثروات الخليج.
***
كان لافتا إصرار روسيا على التدخل وإن متأخرة فى أزمة مجلس التعاون الخليجى. سكتت فى انتظار ما تسفر عنه مساعى التوسط والتدخل من جانب مختلف القوى الدولية المؤثرة. لاحظت أن الأزمة كلفت دول الخليج أموالا طائلة وأجبرتها على التنازل عن أرصدة سياسية وإقليمية غالية القيمة المعنوية، وأن من حق روسيا أن تلحق بركاب الدول العديدة المستفيدة من الأزمة. سمعت من مصدر قريب إلى الروس أن روسيا قررت التدخل بسرعة بدور ما لم تحدده بدقة، متوقعة أن الأزمة إن طالت قد تتحول إلى شكل آخر، وربما بمضمون آخر يهدد كل ما أمكن التوصل إليه من تفاهمات أولية تتعلق بسوريا ولبنان والعراق وفلسطين ومستقبل الخليج ذاته.
***
واشنطن تعيد النظر فى سياستها الخارجية على ضوء عوامل كثيرة ليس أقلها أهمية إعادة التوازن إلى معادلة القيم والبراجماتية وتصحيح الأخطاء التى ارتكبها كل من أوباما وترامب ودفعت أمريكا الثمن من مكانتها. فرنسا أيضا تعيد النظر فى أسس علاقتها بأوروبا ومستعمراتها السابقة، والصين تخرج بعد أسابيع إلى العالم فور انعقاد المؤتمر العام للحزب بسياسة خارجية طموح مزودة بمشروعات تجارية واستثمارية وأهداف توسعية هائلة. أما روسيا فيستطيع الرئيس فلاديمير بوتين أن يفخر بأنه جعل لروسيا فى مدة قصيرة سياسة خارجية جاهزة لتلعب مرة أخرى دور القوة العظمى.