أحد الاستنتاجات الرئيسية لكارثة ماسبيرو أن التفكك طال مفاصل كثيرة فى عصب الدولة أخطرها مفصل الأمن والمتمثل فى غياب الحد الأدنى من المعلومات الضرورية، ناهيك عن غياب أى توقع لتداعيات حدث معروف للجميع قبل أيام.
لو كان هناك حد أدنى من اليقظة والقراءة السياسية البسيطة لأمكن تجنب وقوع المذبحة.
الناشطون الأقباط أعلنوا قبل الأحد بأيام أنهم ينوون تنظيم مظاهرة كبرى تنتهى عند ماسبيرو للضغط على الحكومة لمعاقبة مهاجمى كنيسة المريناب بأسوان إضافة إلى بقية مطالبهم التقليدية. الطبيعى ان يتم السعى لحل سياسى للمشكلة واذا فشلنا فى ذلك فإن الحد الأدنى من الأمن واليقظة كان يحتم على أجهزة الأمن المختصة مثل الأمن العام على سبيل المثال أن يتوقع كل الاحتمالات التى قد تصاحب مظاهرة لأقباط محتقنين.
من ضمن هذه الاحتمالات امكانية اندساس بعض البلطجية أو فلول الحزب الوطنى أو أى شخص يسعى لإشعال فتنة.
لو أن أحد هؤلاء امتلك مسدسا أو بندقية خرطوش أو حتى «فرد» مصنوع يدويا ومعه طلقة واحدة لا يزيد ثمنها على خمسة جنيهات وذهب إلى مكان أى تجمع لمتظاهرين يقفون قبالة جنود شرطة وجيش وفى بداية الليل وفى لحظة لا تزيد على الثانية واطلق الرصاصة ثم انسل مغادرا إلى منزله أو أى مقهى.. فإن هذه الرصاصة فى لحظات التوتر والاحتقان كفيلة بإشعال الحريق.
وإذا صدقنا رواية الدكتور محمد سليم العوا وبعض شهود العيان فإن طرفا ثالثا أطلق الرصاص على كل من الجنود والمتظاهرين معا فى البداية، وكل طرف اعتقد أن الرصاص جاءه من الطرف الثانى.
المفترض ايضا أن لدينا أجهزة تجمع المعلومات، لديها قدرة على التوقع والتنبؤ والتحليل والوصول إلى استنتاجات تمنع وقوع الجرائم أو تقلل منها.. لا نتحدث عن بعث وإعادة احياء «أمن الدولة»، ولا نريد أن يعود «الأمن الوطنى» كى يحل محله فى قضايا السياسة الداخلية، ولا نتحدث عن أجهزة أمنية أخرى، لكن نسأل سؤالا بسيطا وبديهيا: هل فوجئ جنود الجيش والشرطة المدنية بما حدث، ألم تصل إليهم وإلى رؤسائهم ولو بعض التوقعات؟!.
هل وقفوا فى أماكنهم واعتقدوا أن الأمور ستسير مثل سابقاتها. متظاهرون يأتون ويهتفون ثم ينصرفون أو فى اسوأ الأحوال يعتصمون ليوم أو ليومين وبعدها يعودون لمنازلهم.
المشهد الراهن باختصار أن السياسة غابت او شبه توقفت، لا نرى أى خيال أو إبداع لحل مشكلة سياسية، نكتشف المشكلة فيتصدى لها الأمن فقط بشقيه المدنى أو العسكرى... جنود يفتقرون إلى الحد الأدنى من الكفاءة فى التعامل مع قضايا سياسية معقدة والنتيجة كارثية فى معظم الأحوال!.
إذن وفى غياب السياسة الراشدة والعاقلة والوقائية عاد الأمن ليصبح المنقذ، فيرتكب المزيد من الكوارث، وبالتالى فإن أى تحليل منصف لمذبحة الأحد الأسود سيصل إلى خيار من اثنين: إما أن الأمن «انضحك عليه» ووقع فى الكمين الذى نصب له، بإحكام وهذا هو الاقرب الى المنطق، أو أنه فقد عقله فى لحظة حمق تاريخية وارتكب المجزرة، وبالتالى فهو يتحمل المسئولية فى كل الأحوال.
السؤال المستقبلى الذى ينبغى أن يشغلنا الآن هو: إذا كان الأمن فشل فى تأمين سلامة مظاهرة لا يزيد عددها على عشرة آلاف شخص فكيف سينجح فى تأمين انتخابات بطول البلاد وعرضها يشارك فيها حتى الآن «فلول» مستعدون لهدم المعبد على الجميع من أجل ألا تنجح الثورة؟!.