شهور طويلة مرت على قبل أن أعود إلى عامود انطباعات فى جريدة الشروق، ذلك العامود كان مساحتى للفضفضة الشخصية، نوع من العلاج النفسى لمشاكل الحياة التى تحاصرنا فنهرب منها إلى ملاذات مختلفة: الدين أو الملذات أو العزلة أو الكتابة. أناس وأشياء وذكريات يتزاحمون فى الذاكرة فى اللحظة التى أمسك فيها بالقلم أو الآيباد لأكتب أول كلمة فى الانطباعات الأسبوعية، فأعطى الأولوية لموضوع وأرجأ آخر بحرية لا يعرف قيمتها إلا من جرب حلاوة الكتابة.
تداخلت عوامل مختلفة لتحول بينى وبين هذا العامود الذى كان جسرى لتكوين صداقات حميمة، وكان أحد هذه العوامل القيد الوظيفى، ففى بعض الوظائف لا يكفى أن يكون لديك ما تقول لتكتب لكن الأهم أن يكون مديرك راغبا فى أن «يسمح» لك بمساحة للكتابة، وحين تكون من تلك الفئة التى تجادل وتحاور وترفض وتدافع عن رأيها فالأرجح أن مديرك لن يكون راغبا، وهذا كان حالى.
شهور طويلة من العزلة عن هذا العالم المسحور الذى تكتشف فيه نفسك بقدر ما يكتشفك فيه قارئوك، شهور وأدوات الكتابة فى متناولك وفى نفسك مشاعر حنين وحب وغضب لكنها مشاعر محكوم عليها أن تظل داخلك أو فى الكثير تنتقل من داخلك إلى أذن صديق، شهور والكتابة الساحرة لا تتوقف عن غوايتك فتجاهد شيطانها ما استطعت، ويا له من شيطان.
***
هل يصدق وصف الكتابة بشيطان يغوى ويسحر؟ حاشا لله، معى أنا على الأقل يتعلق الأمر بالهواية لا بالغواية. منذ عرفت أن هناك سطورا وأوراقا وكلمات وأنا أهوى الكتابة، تراودنى فكرة فأمسك بالقلم لتنساب الكلمات خطوطا تسحب مخزون المشاعر المتراكمة وتصبها على الورق. من لحظة أن بدأ إدراكى وتفتح وعيى وأنا أهوى الكتابة، عرفت ذلك فى نفسى وعرفه آخرون عنى، وتسببت هذه المعرفة من كلينا فى مواقف أكثرها طريف. فمثل كل الطلاب كنا نحتشد فى نهاية كل عام جامعى لنضغط على أساتذتنا لحذف هذا الفصل أو ذاك من فصول المقرر، وكلما كان المقرر أصعب كان الضغط مطلوبا أكثر. لكن الضغط تلزمه وسيلة، وكان زجلى العفوى وسيلة دفعتنا لاستمالة الأساتذة. كنا نتضاحك ونحن فى شرخ الصبا من هذا الزجل المغرض الذى كنت أؤلفه، ليس لأنه زجل مكسور وقد كان بالفعل كذلك، لكن لأنه كان فيه من لؤم الصغار أكثر بكثير مما كان فيه من فن البلاغة. ففى أحد الأزجال المصممة خصيصا لأستاذ كنا نرتعد منه خوفا، كتبت مديحا فى محاضرتيه يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع وبدأتها بهذين البيتين:
إتنين وخميس وياريت كل الأسبوع وياه
أبدا لا بجامل ولا حاجة دى كلمة بس لوجه الله
لم تكن الكلمة لوجه الله ولا كنا نتمنى أن يكون أسبوعنا كله اثنين وخميس، لكنها كانت مراهقة شعرية وطلابية، والعجيب أنها كانت تؤتى ثمارها. فبعد أن تلوت بصوت مرتعش هذا الزجل الملحون أمام زملائى وفى حضرة أستاذنا المهيب، بشرنا بحذف الفصل الأول من مقرر كذا، وضج المدرج رقم (١) بالتصفيق. تبينت حينها أن قلمى عندما يكتب فإنه قد يؤثر وأحببت هذا الشعور جدا لأنه كان يجعل لى عزوة بين زملائى، وحين كنا نختلف معا لسبب تافه كالعادة كنت أهددهم قائلة: والله ما أنا كاتبة! أقول أحببت أثر القلم لكنى خفت منه، والأدق أننى خفت من نفسى أن توظف الكلمة فى غير موضعها، لكن سرعان ما تكفلت تطورات الحياة بتبديد هواجسى وكانت أزجال المديح فى سنوات الجامعة هى آخر عهدى بمدح أى مسئول.
***
هل كانت هذه هى بداية الهواية؟ لا بل هى أسبق من ذلك بسنوات. فى الصف الثالث الثانوى وقعت حرب أكتوبر وضغطت على الرغبة فى الكتابة بشدة فكتبت رواية بعنوان «فدية النصر»، وكانت تدور حول جندى خاض حرب ١٩٦٧ واحتفظ فى داخله بكل مرارة التجربة حتى قدر له أن يثأر فى ١٩٧٣ فاستشهد وكانت شهادته هى فدية النصر. تجاسرت وعرضت روايتى الأولى ــ والأخيرة فى الواقع ــ على كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، استوقفته صباح أحد أيام شهر فبراير عام ١٩٧٤وهو يقطع طريقه اليومى على كورنيش النيل فى حى العجوزة وسألته الرأى فأخذ منى الرواية مشجعا. ومضت أيام وأيام أتابع فيها مشوار كاتبنا الكبير من نافذة غرفتى المطلة على الكورنيش وأنتظر أن يشير إلى أن انزلى فلا يشير. وأخيرا جاء الفرج ولوح لى صاحب نوبل بيده فتدحرجت من على سلم بيتى وكنت أمامه فى ثوان. قلبى يدق بعنف وعرقى يتصبب فى فبراير حين كان الشتاء شتاء، نجيب محفوظ بنفسه قرأ لى.. محظوظة بالقطع أنا. ابتسم الرجل مهدئا روعى وقال: بداية طيبة لكن أسلوبك مثقل بالمحسنات البديعية وفيه تأثر كبير بمصطفى المنفلوطى لكن زمانه غير زماننا. فاجأنى أنه قرأ بين السطور انبهارى بأدب المنفلوطى فسحبت الرواية شاكرة واشتغلت من بعد كثيرا على أسلوبى ليصير أسلس.
رغم تأثير تلك الواقعة إلا أنها أيضا لم تكن الأولى، البدايات كانت بالتأكيد مع حصة الإنشاء، ما أحببت من علومى قدر اللغة العربية وما تعلقت فى اللغة العربية قدر تعلقى بموضوعات التعبير. كانت كيمياء من نوع فريد تنشأ على الفور مع كل أساتذة اللغة العربية وكانوا عظاما، يضغطون على مخارج الألفاظ فى الحديث، ينصبون ويرفعون ويكسرون ويتقمصون عنترة وإيليا فيتبدى على ألسنتهم جمال هذه اللغة التى لا أغنى منها ولا أخصب.
***
عمرى كله مع الكتابة افتتانا وحبا وهواية وممارسة وألفة ثم يأتى من يقول لى لن آذن لك بالكتابة، يا الله! كم كانت الشهور الماضية عجافا قاسية قارسة كتمت فيها الغُنا كتما وقد قال عمنا صلاح جاهين فى معاناة كاتم الغُنا ما قال، شهور أتفاعل وأغلى لكن تفور مشاعرى إلى الداخل لتجرف ما تجرف من إنسانيتى وذاتى فأستغرب نفسى وأحن إلى الكتابة لأقصى مدى، شهور لا أعادها الله ولا ذكرنى بها فلا شىء فى الدنيا يعدل استعادة القدرة على البوح والتعبير، لا شىء على الإطلاق.