الحداثة الأوروبية من صلح ويستفاليا وحتى الثورة الصناعية: المخاض! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحداثة الأوروبية من صلح ويستفاليا وحتى الثورة الصناعية: المخاض!

نشر فى : السبت 13 أكتوبر 2018 - 11:05 م | آخر تحديث : السبت 13 أكتوبر 2018 - 11:05 م

كما أشرت فى المقالة السابقة، فإن عصر النهضة الأوروبية بدأت إرهاصاته الأولى فى التشكل منذ توقيع صلح ويستفاليا عام ١٦٤٨ والذى أنهى – فى الحقيقة فقط ــ حدا من الحروب الدينية فى أوروبا. منذ ذلك التاريخ عرفت أوروبا مرحلة جديدة من تاريخها ساعدها لاحقا فى الوصول إلى الثورات الصناعية والثقافية، أى إن عملية المخاض النهضوى هذا قد استغرقت ما يقارب من ٢٠٠ عام أو يزيد قليلا حتى بدأت فى الإنتاج المادى والحضارى الذى ساعد أوروبا والعالم الغربى عموما أن يسود العالم وحتى اللحظة!
لا يغيب عن أصحاب العقول قطعا معنى أن تستغرق عملية المخاض هذه والتى كانت مليئة بالعثرات والصراعات والتراجعات ثم النهوض مجددا أكثر من قرنين حتى أتت بثمارها، فالإشارة واضحة، أن عملية التفاعل الذاتى، لا التقليد ولا الاستيراد الجاهز هى وحدها الكفيلة بثقل تجارب التحضر والتقدم، وهذا ما يغفل عنه البعض من العلمانيين العرب أصحاب النزعات الفاشية المغلفة برغبة عميقة بالانقطاع عن التاريخ والجغرافيا ومعاداة استعلائية فوقية للثقافة المحلية.
منذ صلح ويستفاليا وحتى الثورة الصناعية منتصف القرن الثامن عشر الميلادى مرت أوروبا بالعديد من المحطات التاريخية التى مهدت للمخاض الحضارى والمادى المتفوق، وأسرد هنا ما أعتقد أنه السمات الأهم لهذه العملية بناء على القراءة الشخصية للتاريخ الأوروبى الحديث والذى استندت فيه للمراجع سالفة الذكر فى مقال الأسبوع الماضى.
***
السمة الأولى تمثلت فى تعضيد الهوية الأوروبية وخاصة فى مناطق وسط وغرب أوروبا والتى ميزتها بوضوح عن روسيا الأرثوذكسية وعن الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، فتشكيل الحدود والانخراط فى مأسسة العلاقات الدبلوماسية بين الدول الأوروبية ساهم فى تشكيل هذه الهوية المميزة والتى اعتمدت بلا شك على المشترك المسيحى (الكاثوليكى والبروتستانتى) وساهم لاحقا فى سهولة التأثير والتأثر المتبادل بين أى تطور سياسى أو اقتصادى أو ثقافى أو اجتماعى فى إحدى الممالك الأوروبية وجيرانها.
أما السمة الثانية لهذه المرحلة فقد تمثلت فى التركيز على استغلال الموارد الطبيعية والتعامل مع الطبيعة باعتبارها مصدرا للخير والرخاء والإيمان بالقدرة على تطويعها لمصلحة الإنسان بدلا من الخوف منها باعتبارها مصدرا لأساطير الشر وغضب الإله كما كان يتم التعامل معها سابقا. ساعد على عملية الاستغلال هذه ترسيم الحدود وقلة عدد الحروب بين الملوك الأوربيين مما ساهم بالاشتغال على قيم التطور والرقى بدلا من الهدم والصراع وهو تطور محورى فى المنظومة القيمية الأوروبية سيتضح بجلاء أهميته فى مرحلة تاريخية لاحقة.
تمثلت السمة الثالثة فيما يمكن تسميته «علمنة المسيحية» ــ وهى عملية معقدة اتخذت وقتا طويلا حتى نضجت، تمثلت فى اعتبار المسيحية هى إرث حضارى مشترك لكل الشعوب الأوروبية وأحد أسس النهضة والتنوير ولكن تم ذلك فى ظل عملية إعادة قراءة تاريخية للمسيحية ودور المسيح ومركزية السلطة الكنسية وتوغل رجال الدين على الحياة الخاصة للمواطنين والعامة للملوك. بعبارة أخرى فإن النهضة الأوروبية فى هذه المرحلة لم تعتمد على استبعاد الدين ولكنها أعادت قراءة تاريخ الدين بشكل علمانى رافضة القراءة اللاهوتية التاريخية شديدة التحيز ومقدمة كبديل عن ذلك قراءة بشرية نقدية حافظت على المسيحية كمصدر للإرث الحضارى المشترك ولكنها رفضت توغل الأخيرة ونزعت منها تدريجيا الحق الحصرى فى احتكار شرعية التطور الإنسانى ممهدة بذلك لسيادة عصر القوانين المدنية حيث انتقلت السلطة تدريجيا من رجال الدين إلى رجال الدولة. جزء من هذا التطور ارتبط أيضا بتعميق مفهوم الأخلاق واعتبار أن الدين هو أحد مصادرها وليس المصدر الوحيد لها، فتم إعادة الاعتبار للعقل والفن والثقافة باعتبارها مصادر أخرى للأخلاق والرقى والتقدم.
السمة الرابعة والأهم كانت متمثلة فى ثورة العلم وهو تطور طبيعى ومنطقى لإعمال العقل والتركيز على استغلال الموارد والذى مكن أوروبا أخيرا من اللحاق بالتطورات الرياضية والفلكية التى سبقتها إليها حضارات عدة فى الشرق. تم التركيز فى هذه الحقبة على العلوم التطبيقية والرياضية من أجل المزيد من التحكم فى الموارد والبيئة المحيطة وهو ما ساهم فى إعادة الاعتبار للعلوم الطبيعة ولعل قوانين نيوتن للجاذبية أحد أهم منتجات هذه الحقبة والتى أعادت تشكيل العديد من الافتراضات العلمية ووضعت أسس النهضة والحداثة الأوروبية فيما بعد. عضدت هذه الثورة العلمية مبادئ النسبية فى التفكير والتى رفضت المسلمات المطلقة بالاعتماد على الفرضيات العلمية التى يمكن اختبارها بشكل علمى (إمبريقى) بحيث لا يتم اعتماد الفروض العلمية إلا بعد إثبات صحتها لتتحول إلى قوانين يمكن البناء عليها، ساهم هذا أيضا فى بدء عصر انحصار الأساطير وسيادة العقل والرشادة على التفكير الغربى والذى كان محددا آخر هاما للتقدم والتنوير.
أما السمة الخامسة والأخيرة لهذه المرحلة فقد تمثلت فى إرساء قواعد الديمقراطية نظريا عن طريق كتابات مفكرى العقد الاجتماعى الذين أعادوا تصور صياغة العلاقة بين الحكام والمحكومين فى شكل عقد يدين فيه المحكومين بالولاء للحكام بشرط أن يلتزم هؤلاء الحكام بمبادئ الحرية وحماية حقوق هؤلاء المواطنين. وقد تمثلت كتابات لوك عن الطبيعة الشريرة للدولة وضرورة تهذيبها بعقد يضمن حقوق وحريات المواطنين فى التمهيد لصياغة تعاقدية جديدة مهدت للديمقراطية ورفضت العلاقات الهيراركية التى امتلك فيها النبلاء عبيدهم كحق مطلق وحصرى. هذه العلاقة التعاقدية أيضا ساهمت فى المزيد من التحرير للعقل الأوروبى ودفعته نحو البحث عن مصلحته بعيدا عن سطوة رجال الدين وهو ما ساهم فى عقود لاحقة لإقرار قواعد الديمقراطية الليبرالية كضمانة لحياد أجهزة الدولة تجاه مواطنيها (العلمانية) وليس العكس كما تتصور بعض الكتابات العلمانية العربية باعتبار أن العلمانية ضمان للديمقراطية، فالواقع الأوروبى أكد أن العكس تماما هو الصحيح، فدون ضمان الحريات والتعددية وحقوق الأقليات كما الأغلبية فلا معنى أصلا للعلمانية وهو ما سيتضح بشكل أكثر جلاء فى عهد الثورتين الصناعية والسياسية فى منتصف القرن الثامن عشر.
***
بينما كانت أوروبا والعالم الغربى فى مخاض التطور الحضارى والمادى، كانت حضارات العالم القديم بدأت إرهاصات الانحدار والخفوت، كانت اليابان فى عزلة اختيارية عزلتها تماما عن العالم، فيما كانت الصين فى مرحلة حروب وثورات لا تنتهى فككت أوصال الإمبراطورية القديمة وحولتها إلى مجموعة جرز منعزلة تحارب بعضها البعض منتهيا بها الحال إلى احتلالها وإذلالها بواسطة الأوروبيين، كانت الهند بدورها تشهد صراعا ثلاثيا بين الإمبراطورية المغولية (الإسلامية) وبين التجار البريطانيين الذين فرضوا سطوتهم على البلاد وبين الهندوس، رفضت فيه الإمبراطورية المغولية التحديث والتعددية فأخذت فى انهيار وتدهور تدريجى حتى اختفت تماما، كان الأمر نفسه ينطبق على الإمبراطورية العثمانية التى رفضت الأخذ بالمشاريع الإصلاحية السياسية والاقتصادية فأخذت فى عملية وهن تدريجى ولم تفلح معها المحاولات المستميتة التى بذلها عبدالحميد الثانى من أجل اللحاق بالركب الأوروبى حتى انهارت بدورها هى الأخرى.
لكن كيف تطور الغرب فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولا إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى؟ وأين كان موقع العلم والتاريخ والدين والفن من هذه التطورات؟ هذا ما سأحاول قراءته فى الأسبوع القادم.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر