«تحرير السماء هو بداية تحرير الأرض»؛ لكأنما استلهمت إدارة بايدن تلك المقولة للمفكر الجزائرى، محمد أركون، غداة صوغ استراتيجيتها الجديدة لمحاربة الإرهاب عالميا. فبموازاة تركيزها على الروافد المستحدثة للتهديد الإرهابى القادم من بقاع نائية مثل الصومال، وسوريا، والعراق، ودول الساحل الغربى الأفريقى، ينحو التوجه المبتكر باتجاه محاربة الإرهاب الدولى، عن بُعد، مع إعطاء أولوية لمناهضة الإرهاب المحلى، المنبعث من داخل الديار.
عشية الانسحاب الفوضوى من أفغانستان، أعلن بايدن اعتزامه تفعيل استراتيجية مكافحة الإرهاب «عبرالأفق»، مؤكدا جهوزية، أقوى جيش فى التاريخ، لدرء التهديدات الإرهابية القادمة من أفغانستان، عبر شن غارات بطائرات تنطلق من قواعد أمريكية أو حاملة طائرات متمركزة فى المنطقة، بغير ضرورة لتموضع عسكرى على الأرض. فعلى أثر عمليات الرصد والمراقبة، اعتمادا على وكلاء محليين، سيتم توجيه هجمات بمُسيرات، يدعى البنتاجون أن عقلها الإلكترونى يتمتع بدقة ذات هامش خطأ صفرى، بما يتيح اصطياد الإرهابيين، دون المساس بالمدنيين.
فى المقابل، يرتأى خبراء أمريكيون الاستراتيجية الجديدة غير واقعية، وأدنى فاعلية. فجيواستراتيجيا، لا تمتلك الولايات المتحدة قواعد عسكرية فى أفغانستان أو جوارها الإقليمى، فيما تقف لها روسيا بالمرصاد للحيلولة دون ذلك، كما لم يعد لها حلفاء على الأرض، فعلى خلفية الانسحاب الكارثى من أفغانستان، فقد الأمريكيون العديد من ميكانيزمات رصد وملاحقة الإرهابيين. وبينما يتطلب نجاح الغارات الجوية، انتشار قوات برية على الأرض، أو الاستعانة بوكلاء محليين، فككت واشنطن قواعدها وبناها التحتية العسكرية، التى كانت تزود مختلف الوكالات الاستخبارية الأمريكية بالمعلومات والعملاء، كما توسعت فى إجلاء المتعاونين الأفغان، الذين كانوا يشكلون مصدرا ثريا للتقارير الميدانية، بالتزامن مع سقوط الحليف الأفغانى الأوثق، المتمثل فى نظام أشرف غنى وجهاز استخباراته، الأمر الذى فاقم كلفة الغارات الجوية، جراء بُعد القواعد الأمريكية، عن البؤر الأفغانية المستهدفة، واضطرار القاذفات للتزود بالوقود جوا، وإهدار المسيرات ما بين 70 إلى 80% من وقودها قبل بلوغ أهدافها، خصوصا مع رفض دول الجوار الأفغانى فتح مجالاتها الجوية لتلك الطائرات.
أما سياسيا، فيتعاظم التوجس من تلك الاستراتيجية، مع تنامى أعداد الضحايا المدنيين لغاراتها الجوية. فمن جانبه، يرى ستانلى مكريستال، قائد العمليات الخاصة المشتركة الأمريكية، وقوات التحالف فى أفغانستان، أن «غارات المسيرات التى تشبه الصواعق، باتت تخلق تصورا بالعجز والغطرسة، من لدن جهة تتصرف، كما لو كانت تمتلك المعرفة المطلقة والقدرة اللامحدودة». كأننا بالرجل وقد فند مزاعم الرئيس الأسبق أوباما أثناء خطابه بجامعة الدفاع الوطنى فى مايو 2013، بأن استراتيجية واشنطن لشن الغارات الجوية خارج مسرح الحرب الأفغانية وبقاع الأعمال العدائية النشطة، مبنية على يقين من عدم استخدامها للقوة المميتة، إلا فى حالة التهديد المباشر لمصالح الولايات المتحدة وأمن مواطنيها، أو حينما لا تتوافر إمكانية توقيف واستجواب الإرهابيين والمشتبه بهم، للحصول على معلومات تفيد فى إحباط المخططات الإرهابية، كما تنطلق من ثقة مطلقة فى عدم تسببها فى مقتل أو إصابة المدنيين.
فلطالما قتلت الغارات الأمريكية أفرادا، يمكن توقيفهم، كما استهدفت مشتبها بكونهم إرهابيين، بغير تثبُت أو تحقُق. ويزيد الطين بلة، تقاعس واشنطن عن التحقيق فى ملابسات سقوط المدنيين الأبرياء، فضلا عن غياب آلية ناجزة لتعويض المتضررين، وأسرالضحايا، بشكل ملائم، وتؤكد نتائج المراجعة الاستراتيجية، إخفاق الغارات، القاتلة للمدنيين، فى تأمين الولايات المتحدة، أو الدول التى تشكل مسرحا للعمليات، كونها لا تقوض خطر الإرهاب، بقدر ما تعزز قدرة التنظيمات الراديكالية، عبر تأجيج غضبها واستنفار رغبتها فى الانتقام. ولقد ظل الغضب الناجم عن الخسائر الفادحة فى الأرواح والممتلكات بين صفوف المدنيين، أحد أبرز تبريرات مقاتلى حركة طالبان للانضواء تحت لوائها، وفقا للنائب السابق لرئيس هيئة الأركان المشتركة، والمستشار السابق لأوباما، جايمس كارترايت.
برغم سيل المزاعم حول دقتها، تبقى الضربات الجوية أكثر التكتيكات فظاظةً، ذلك أنها تعتمد على معلومات استخباراتية مشوشة، أو يصعب التحقق من دقتها، مع عدم حيادية مصادرها، أو ثبوت زيفها لاحقا. ولم يتورع خبراء أمريكيون عن التشكيك فى جدوى محاولات إدارة بايدن لملاحقة «داعش ــ خراسان» بواسطة غارات المسيرات، التى تستتبع قتل المدنيين وتدمير ممتلكاتهم، شأنها فى ذلك شأن مثيلاتها، فى اليمن، والعراق، وسوريا، وغيرها، ولعل هذا ما دفع حركة طالبان، خلال المباحثات المباشرة مع الأمريكيين بالدوحة مؤخرا، إلى رفض أى دور لواشنطن فى محاربة «داعش» خراسان، وتحذيرها من العواقب الوخيمة لانتهاك مسيراتها الأجواء الأفغانية، والذى تعتبره الحركة اختراقا للأمن القومى الأفغانى، وانتهاكا لاتفاق الدوحة، كما سائر الأعراف والقوانين الدولية.
فبعدما أعلن الجيش الأمريكى فى 29 أغسطس الماضى تنفيذ غارة بمسيرة لتدمير آلية محملة بالمتفجرات فى كابول، زاعما إحباط محاولة لتنظيم «داعش ــ خراسان»، لتنفيذ عملية إرهابية جديدة بمطارها، عاد ليقر معتذرا، بمقتل عشرة مدنيين أفغان، بينهم سبعة أطفال، فى «خطأ مأساوى»، نافيا أية صلة للضحايا بالتنظيم الإرهابى، أو تهديدهم للقوات والمصالح الأمريكية، وبينما رفضت واشنطن اعتبار «الخطأ غير المقصود» انتهاكا لقوانين الحرب، شكك المدير التنفيذى لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، فى إمكانية إقرار البنتاجون بالخطأ ومحاولتها تعويض المتضررين منه، لولا التحقيق الاستقصائى الجرىء، الذى أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» بهذا المضمار.
وفى أبريل الماضى، أكدت دراسة لجامعة «براون» مقتل أكثر من 71 ألف مدنى أفغانى وباكستانى خلال العشرين عاما المنقضية، محذرة من التنامى المروع لأعداد الضحايا المدنيين منذ العام 2017، إثر اعتماد إدارة ترمب قواعد اشتباك تقلص القيود على العسكريين فى استخدام القوة. وبناء عليه، أضحت المخاطر المتعلقة بالانتشار السريع والمقلق للمسيرات القاتلة عن بُعد، بمنأى عن القانون الدولى، مصدر تهديد مباشر للأمن والسلم الدوليين، وبينما أعلنت الولايات المتحدة فى فبراير 2015، سياسة جديدة لتصدير مسيراتها، ضمن تحرك عالمى لوضع معايير ناظمة لاستخدامها، وإلزام الدول المستخدمة لها بتلك المعايير المتوافقة مع القانون الدولى، إلا أن نتائج التقارير الدولية تشكك بمدى جدية الأمريكيين فى هكذا مسعى.
أما بخصوص خطر الإرهاب المحلى، فقد حذر مكتب التحقيقات الفيدرالى من تعاظمه، حتى وصفه بالورم الخبيث المتنامى، الذى تغذيه جماعات مسيحية متعصبة، وتنظيمات بيضاء متطرفة، إضافة إلى مروجى الشائعات المغرضة، والذئاب المنفردة الموالية لتنظيمات إرهابية عابرة للحدود، وفى كلمته بالذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر 2001، حذر الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، من تهديدات الإرهاب الداخلى، بالقول: «لقد أثبتت عديد أدلة أن الأخطار على بلدنا يمكن أن تأتى، ليس فقط من الخارج، بل من العنف الداخلى المتفاقم، فثمة ارتباط بين إرهاب المتطرفين فى الخارج وعنف نظرائهم فى الداخل.. هما نتاج نفس الروح البغيضة، التى تستوجب المواجهة».
وعلى وقع استشراء الاستقطاب والانقسام السياسيين داخل البلاد، حثَّ بوش على الوحدة الوطنية، قائلا: «عندما يتعلق الأمر بوحدة أمريكا، يبدو ذلك بعيدا هذه الأيام، فى وجود قوة خبيثة تعبث بحياتنا المشتركة.. لقد صارت السياسة عندنا، فى الأغلب، دعوة صريحة للغضب والخوف والاستياء».
ومنذ أيلول الأسود، شهدت أمريكا هجوما إرهابيا وحيدا، استهدف تنظيم القاعدة من خلاله، قاعدة بحرية بولاية فلوريدا فى ديسمبر 2019، وأودى بأرواح ثلاثة أمريكيين، وبحسب استطلاع للرأى أجرته مؤسسة «غالوب» مطلع الشهر الماضى، تراجعت نسبة الأمريكيين الذين يخشون هجوما إرهابيا خارجيا محتملا، من 58% فى سبتمبر 2001، إلى 36% فقط هذه الأيام، وفى فبراير 2021، أظهر استطلاع أجراه «مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية»، أن 47% من الديمقراطيين يعتبرون التطرف الداخلى بمثابة التهديد الأعظم على بلادهم، فيما يعتقد 10% فقط منهم، و15% من الجمهوريين، أن التنظيمات الإرهابية الأجنبية تظل الخطر الأضخم. ومقارنة بما كان عليه الحال قبل عشرين عاما، يشعر الأمريكيون بقلق أقل حيال هجوم إرهابى أجنبى أعنف، فيما يتملكهم هلع بالغ إزاء الإرهاب الداخلى، خصوصا من قبل المتطرفين اليمينيين.
فى تقرير أصدره الشهر الفائت، أكد معهد الأبحاث الأمريكى الجديد، أنه منذ 11 سبتمبر 2001، قتل جهاديون يحملون الجنسية الأمريكية أو البطاقات الخضراء، لكنهم غير مرتبطين بجهات خارجية، 107 مواطنين أمريكيين فى هجمات متفرقة، فيما أجهز المتطرفون اليمينيون، خصوصا دعاة تفوّق العنصر الأبيض، على 114 شخصا داخل البلاد، ما دفع وزير الأمن الداخلى، إلى اعتبار التطرف المحلى أخطر تهديد إرهابى للبلاد؛ حيث سلط الهجوم على مبنى الكابيتول بواشنطن فى يناير الماضى، الضوء على المتطرفين اليمينيين مجددا، بعدما قتلوا العشرات بهجمات فى تكساس، وبنسلفانيا، وغيرهما.
وبينما كانت إدارة بايدن تلملم شتاتها من أفغانستان، شرعت فى تنفيذ استراتيجية جديدة لمواجهة المتطرفين فى الداخل الأمريكى. ففى يونيو الماضى، اعتقلت وزارة العدل 480 شخصا على صلة بغزوة الكابيتول مطلع العام الجارى، تزامنا مع متابعتها مئات القضايا الجنائية فى دوائر القضاء. وفى السياق ذاته، قال النائب العام: «بينما لا يمكن للحكومة الأمريكية تجاهل جرائم الإرهاب الدولى، فإنه يتعين عليها التصدى للإرهاب المحلى بنفس القدر من الطاقة والتصميم». وفى معرض تبريره قرار الانسحاب المخزى من أفغانستان، استبعد بايدن، فى خطابه بمناسبة الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر، غزو واشنطن كل بلد يلوذ به تنظيم القاعدة.
ذا شقين يبقى التحدى أمام استراتيجية بايدن الجديدة لمحاربة الإرهاب. فمثلما قوبلت آلية، ما وراء الأفق، لمواجهة التهديدات الدولية، بامتعاض محلى وعالمى، بجريرة صعوبتها، وتنامى ضحاياها المدنيين، وتكريسها المهام غير القانونية للمسيرات، بقوة تطرح نفسها الأصداء المُحبطة للإجراءات التقييدية المصاحبة لخطة مناهضة الإرهاب الداخلى، فبينما أسهمت التدابير التقييدية، التى تبنتها السلطات الأمريكية، بعد فاجعة أيلول الأسود، بذريعة قهر الراديكاليين ودحرالمتطرفين، فى إجهاض بعض الهجمات الإرهابية، تمخضت، من جانب آخر، عن تأكيد طروحات، نعوم تشوميسكى، بشأن تآكل ثقة مواطنين كُثر، لاسيما المحافظين، فى نخبة الحكم، فقد أظهر استطلاع أجراه مركز «بيو»، مؤخرا، انكماش ثقة الأمريكيين بحكومتهم، من 60% عقب مأساة سبتمبر 2001، إلى 25% فقط، منذ أبريل 2021.