بداية، تجدر الإشارة إلى أن المفاوضات المشار إليها فى عنوان هذه الزاوية، ليست الأطول فحسب؛ بل ورافقتها حرب أو بالأحرى حروب هى الأطول كذلك. ومنذ وقع الأشقاء الفلسطينيون فى فخ هذه المفاوضات، واختار البعض منهم طريق «أوسلو» وما أسفرت عنه من اتفاق مموه يشير إلى حل منقوص والعدو الصهيونى يشن حروباً عدة تتخللها مفاوضات وقتل واختطاف واعتقالات وقضم متواصل للأرض، وهو ما لم يكن يحدث قبل «أوسلو» وقبل الدولة الموهومة. والأغرب والأعجب أنه لا يزال هناك من الأشقاء الفلسطينيين من يذهبون إلى المفاوضات تحت مزاعم مختلفة وبإغراءات وهمية من الراعى الأكبر (الولايات المتحدة الأمريكية) التى تثبت ولاءها الدائم وإخلاصها الثابت للكيان الذى بات يجيد الكر والفر ولا يجد رادعاً يضع حداً لصلفه ومماطلاته.
لقد جنى الأشقاء الفلسطينيون على أنفسهم وعلى قضيتهم التى هى قضية العرب أجمعين بقبولهم اتفاق «أوسلو» وما حمله ذلك الاتفاق من إهدار لجوهر الحق الفلسطينى، وكأن بعض هؤلاء الأشقاء قد ملّ الاغتراب خارج أرضهم، واشتاق إلى الاستمتاع بمظهر السلطة الخالية من كل معنى. ولم يتنبه كثيرون من هذا البعض إلى أن اتفاق «أوسلو» كان فخاً إلا بعد فوات الأوان، وكان ذلك موقف المناضل الراحل ياسر عرفات الذى صار يرى الاتفاق فخاً بل خيانة، لاسيما بعد أن أدرك وهو المحاصر السجين فى غرفة القيادة أنه خُدع، وأن الشعب الفلسطينى كان ضحية خدعة كبيرة واستدراج غير محسوب، لكن كل ذلك تم بعد فوات الأوان، وهكذا نحن العرب لا نصل إلى معرفة حقيقة الأمور إلاّ بعد أن تكون قد صارت واقعاً.
إن من مبادئ المفاوضات السياسية القديم منها والحديث، ألا يتم التفاوض بين السارق والمسروق، بين الغاصب والمغتصَب، والتفاوض يكون فى القضايا الجزئية العالقة بين شعبين أو قوتين، وقد كان واضحاً بعد اتفاق «أوسلو» إن المراد بالتفاوض من قبل العدو الصهيونى هو كسب أطول وقت ممكن حتى يتسنى له التهام ما يستطيع التهامه من الأرض التى احتلها بعد حرب 1967. ويمكن قراءة ذلك ومتابعته على أرض الواقع بوضوح، فقد تمكن العدو تحت منطق اتفاق «أوسلو» ومنطق المفاوضات المطولة أن يبنى عشرات المستعمرات فى القدس وحول القدس وفى الضفة، وهو ما لم يكن يحلم به ولا يرضى عنه العالم الذى كان ينظر إلى وجوده فى هذه المناطق بوصفه محتلاً لا مفاوضاً أو طرفاً فى النزاع على أرض محتلة مجدداً.
ولعل ما يؤسف له، الصمت العربى المطبق الذى زاد فى الآونة الأخيرة، وتمادى الأنظمة فى إلقاء العبء كله على ما يسمى بالدولة الفلسطينية التى وصلت فى مفاوضاتها أخيراً إلى التوقف عند المطالبة بإطلاق الأسرى، وكأن جوهر الخلاف مع العدو لا يتجاوز هذا المطلب، فى تجاهل تام لما يعانيه الأشقاء من تمزق وخلافات ساعدت العدو على تماديه فى الإجرام وفى بناء المستوطنات، وفى تحدى الرأى العام العالمى الذى كان قد بدأ يعى المأساة ويدرك عمق الكارثة التى يسببها وجود الكيان الصهيونى ومخططاته التى لا تخص فلسطين، وحدها بل سائر دول المنطقة من دون استثناء، وإذا كانت القضية الفلسطينية كقضية مركزية تهم جميع العرب قد أسهمت فى تحريك المياه الراكدة فى الوطن العربى منذ أربعينيات القرن الماضى فإنها ينبغى أن تظل كذلك عاملاً فاعلاً ومحركاً للواقع العربى الذى بدأ بالغليان، ولم يعد قابلاً للمساومة فى قضاياه والقبول بالدخول فى مفاوضات تخدم العدو وتساعده على مزيد من التوغل والتوسع.