تابعت كما تابع غيرى ردود أفعال الناس على موت الفنان محمود رضا الذى تدين له بالسعادة أجيال متتالية.
ولا أزال أتذكر شكل التليفزيون فى بيتنا القديم خلال يومى الأحد والخميس؛ حيث كانت تقدم فقرات اليوم المفتوح وكانت بدورها مناسبة اجتماعية ذات طقوس خاصة يتبادل فيها أفراد العائلة إلى جانب الطعام والشرب بعض الأمنيات بعرض الأفلام الكوميدية المحببة لإسماعيل ياسين أو أفلام سعاد حسنى وعادل إمام.
وكانت أفلام فرقة رضا (إجازة نص السنة) و(غرام فى الكرنك) تبهجنا أكثر من غيرها بسبب ما فيها من استعراضات، وجرت العادة أن نخرج بعد عرضها إلى الشارع أو الشرفات لنغنى (الأقصر بلدنا) أو (يا بابا يابا على التفاحة وأدى رقصة الفلاحة) (حتشبسوت يا حتشبسوت).
وبفضلها أيضا تكونت فى أذهاننا ونحن أطفال العديد من الصور عن السياحة والإجازة والدور المنتظر منا خلال مرحلة الجامعة ورفعت سقف طموحنا فى أن نكون جديرين بالمغامرة والتحدى المنتظر.
ومثلت تلك النوعية من الأفلام حوافز أكيدة دفعت أبناء جيلى لتجريب فكرة الانضمام لفرق الرقص والتمثيل داخل الجامعة ومقاومة فكرة «تحريم الفن» التى كانت بدأت فى الشيوع اعتبارا من أوائل ثمانينيات القرن الماضى بتأثيرالأفكار السلفية والجهادية.
ورغم اعتزاله قبل سنوات طويلة فإن محمود رضا ظل حاضرا وبلغ لدى الناس مكانة متميزة لم يبلغها أى راقص غيره، وربما لأن تجربته أصبحت جزءا من الذاكرة اليومية للمصريين الذين عاشوا سنوات صعود الفرقة وطموحها فى أن تعبر عن هوية مصرية جامعة (وليست موحدة) تحترم التنوع الاثنوجرافى وتعبر عنه.
وعلينا ألا ننسى ونحن نتأمل تجربة هذا الفنان الاستثنائى التوقف أمام السياق الاجتماعى والسياسى الذى أفرزها، فوالده كان أمينا لمكتبة جامعة القاهرة ولم يمارس هذه المهنة كوظيفة بيروقراطية وإنما كوظيفة معرفية حيث لم يتوقف عن تأليف الكتب الدينية وكان أغلبها يقع فى دائرة سيرة النبى وصحابته وبعض وقائع التاريخ الإسلامى ومن المثير أن هذا الأب/ الشيخ لم يتورط أبدا فى تبنى «ذهنية التحريم» وقبل بتواجد أولاده فى أندية اجتماعية ورياضية تقوم على الاختلاط مع الأجانب والقبول بثقافة المجتمع المفتوح الذى كان يمثله حى مصر الجديدة فى أربعينيات القرن الماضى.
وعلى أساس الإيمان بهذا التنوع الثقافى وضع محمود رضا اللبنة الأولى فى مشروعه الفنى القائم على احترام الهويات المتعددة.
وعندما ظهرت فرقة رضا بعد سنوات قليلة من قيام ثورة يوليو 1952 كان من الطبيعى أن تسعى لترجمة شعاراتها وتبنى آمالها فى خلق مجتمع جديد ينصف الفلاحين والفلكور من جهة، ومن جهة أخرى يترجم شعار «الكل فى واحد» لتدركه الجموع التى خرجت وراء الزعيم لتعزز من فكرة «الزعامة» وتدعم فى نفس الوقت فكرة العمل لأجل الجماعة «على حساب مفهوم» الفرد «وتنمى الخصائص التى تفترضها الدولة عن وجود «الثقافة القومية».
وعبر الرقص قاومت فرقة رضا عمليات تهميش الثقافات الفرعية سواء كانت فى النوبة أو الواحات، وبفضل رقصاتها هى والفرقة القومية للفنون الشعبية أصبح لدينا ألبوم مصرى بصرى بالغ الثراء زاد من قيمته الفنية وجود قوالب موسيقية مبدعة أنجزها الموسيقى على إسماعيل.
ومع توافر نمط فريد من الدعم والإدارة قدمه المهندس حسن فهمى (والد فريدة فهمى) والفنان على رضا تحولت الفرقة ذاتها إلى مؤسسة وإلى عنوان عريض يعبر عن الثقافة المصرية فى تنوعها، كما تعبر (البولشوى) عن الثقافة الروسية.
وتحول محمود رضا إلى أيقونة لفنان شعبى بمواصفات جديدة وما أقصده بالشعبى هنا هو ما يتم وصفه فى الغرب بكلمة (بوب) أى جماهيرى وعادة ما يكون هذا الجماهيرى أو الشعبى له حضور فى النسيج العام يتجاوز شروط الانتماء لطبقة معينة أو الانحياز لفكرة أيديولوجية، أو حتى للعائلة أو القبيلة، وفى مجتمعنا نجحت بعض الأسماء فى بلوغ تلك المكانة مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم ونجيب محفوظ وحسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وفاتن حمامة وفريدة فهمى وتحية كاريوكا ويوسف شاهين ومحمود المليجى، صلاح جاهين، سيد مكاوى، سعاد حسنى ومحمود الخطيب.
فكل هذه الأسماء تشترك فى قدرتها على صياغة «ذاكرة مشتركة» للمصريين وتقديم تمثيل رمزى للمهن التى احترفوها.
ورغم أن البيروقراطية حاصرت الفرقة بعد تأميمها إلا أن محمود رضا ظل بما أنجزه فى الذاكرة أكبر من كل أشكال الحصار.