ما رد فعلك لو تسلّمت رسالة من جهاز حكومى يطلب فيها إبلاغه سلفا بمعلومات عن كل مكان تنوى أن تذهب إليه؟. وما رد فعلك لو أن الرسالة طلبت منك ابلاغ الجهاز بمعلومات كاملة عن كل رجل وامرأة تقابلهما لأول مرة؟.
●●●
أتصور أنه فى الحالتين، وفى ظل ظروف نعيشها حاليا، وبصفتنا مواطنين مارسوا مؤخرا التمرد حتى صار عادة يراها البعض حميدة ويراها آخرون خبيثة، سوف يرفض كثيرون الانصياع لتوجيهات من هذا النوع. هؤلاء سيعتبرون هذه الرسائل تجاوزا لحدود الدولة ومسئولياتها، وتطاولا على حقوق المواطنين، ومحاولة مفضوحة لهتك خصوصياتهم.
أتصور أيضا أن المواطن، فى غمرة استيائه وتمرده سوف يمسك بهاتفه المحمول ويطلب صديقا ليشكو إليه تصرفات الحكومة معه، أو سوف يخرج إلى المقهى على ناصية الشارع فيتعرف على شخص لم يكن يعرفه من قبل، ويهمس فى أذنه بأن حكومته تطلب منه أن يبلغها فور عودته عن رفيق قابله فى مقهى، وما دار بينهما من حديث والمعلومات التى استطاع أن يجمعها عنه.
مواطننا صافى النية. لم يدر بخلده ان المحادثة التى أجراها على المحمول والمقابلة التى جرت فى المقهى مع شخص لم يكن يعرفه، قد نمت تفاصيلهما إلى علم الحكومة قبل أن يقرر أو يرفض الانصياع لتوجيهاتها والإبلاغ عنهما.
●●●
نعرف الآن، ويعرف كل مواطن أمريكى، أن نسخا من جميع مراسلاته الإلكترونية تصل إلى الحكومة بواسطة ترتيب خاص مع شركتين خاصتين، إحداهما Goog التابعة لشركة جوجل، والثانية MSFT التابعة لشركة ميكروسوفت، وأن نسخا من مراسلاته النصية ترسل بدون إذن منه إلى الحكومة عن طريق شركات Verizon و AT@T وSprint، وأن محادثاته الهاتفية تصل نسخ منها إلى الحكومة عن طريق شركات Twitter و Facebook وLinkedln. هذا المواطن المخترقة جميع وسائط اتصالاته والمنتهكة خصوصياته إذا خطر له أن يشكو، فمن يشكو؟ ولمن؟. الغريب أن يصاب مواطن بهذه الحالة من الحيرة أو اليأس فى زمن يزعم فيه حكامه وقادة العالم الليبرالى انه زمن الحقوق وفردوس الحقوقيين. كان الظن فى الأصل هو ان القوانين الدستورية كفيلة بحماية المواطن من تجاوزات الحكومة ووضع حدود على تصرفاتها وممارساتها، وأن قوانين تنظيم الشركات الخاصة كفيلة بتقييد حرية شركات الاتصالات وكبت رغبتها فى التنصت على اتصالات المواطنين وقراءة رسائلهم.
●●●
طبقا للنظريات الليبرالية والحقوقية كان يجب ان يعمل كلا القانونين، الدستورى وتنظيم الشركات، منفصلين. فات على الحقوقيين، أو لعلهم تجاهلوا، أن الطرفين اتفقا على المواطن، اتفقا على ان تخفف الحكومة من القيود التى تفرضها على الشركات وأن تسمح لها بالتصرف بحرية واسعة فى المعلومات التى تجمعها عن المواطنين وتبيعها تجاريا، مقابل السماح للحكومة بالاطلاع على نسخ من الاتصالات التى يجريها المواطنون. اكتشفت الحكومة انه ليس من مصلحتها تقييد حرية الشركات فى خرق التزامها احترام خصوصية عملائها، واكتشفت الشركات انه ليس من مصلحتها عدم الاستجابة لرغبة الحكومة الاطلاع على كل أسرار العملاء، أى المواطنين. بمعنى آخر تخلفت الحكومات عن واجب حمايتنا، أى خانت عهودها التى قطعتها على نفسها، وتخلفت الشركات الخاصة عن التزامها الأدبى واحترام خصوصيات زبائنها، أى خانت هى الأخرى عهودها.
●●●
أخيرا تحقق للحكومة الحلم الأكبر. عاشت الحكومات منذ فجر التاريخ تحلم بيوم يصبح فيه المواطنون جميعا صفحات مفتوحة أمام عيون رقبائها وتحت سمعهم. انتهت، أو كادت تنتهى، مهمة البصاصين وأساليب التجسس البدائية مثل التقارير التى يكتبها أو يدلى بها مكوجى الحى وبواب العمارة وجرسون المقهى وزملاء العمل والزوجة الثرثارة، وحل محلها الرصد الفورى لكل حركة يأتيها المواطن وكل كلمة يتفوه بها فى وجود جهاز كمبيوتر، خاصة أنه لم يعد هناك مكان لا يوجد فيه بصفة دائمة أو متقطعة نوع أو آخر من الأجهزة الكمبيوترية. يقول المتخصصون إن التصاق الانسان المعاصر بجهاز الكمبيوتر أو أى جهاز على علاقة بالإنترنت يجعل من أى حركة يقوم بها المواطن معلومة جديدة. هذا المواطن الذى يرفض بعناد طلبا من الحكومة إبلاغه عن مكان وجوده، يرفض فى الوقت نفسه الاعتراف بأن مجرد وجود الهاتف المحمول فى جيبه ساكنا صامتا كاف لتعرف شركة الاتصالات، ومن خلالها الحكومة، بمكان وجوده. يرفض أن يعترف أيضا بأن وجوده فى مقهى مع شخص آخر كاف لتعرف شركة التجسس المسئولة عن تشغيل الكاميرات العامة فى الطرق والمحال، ومن خلالها الحكومة، بمكان وجوده وما يلزمهما من صور ومعلومات عن الشخص المرافق.
●●●
لم تعد الحكومات فى حاجة لرقباء يعملون طول الوقت لتتبع حركات وأحاديث تسعين مليون مواطن فى مصر أو ثلاثمائة وعشرين مليون مواطن فى الولايات المتحدة، يكفى أن تكون هناك شركات اتصالات وكمبيوتر وإنترنت لتقوم بهذه المهمة. لا يهم فى هذه الحالة أن يكون النظام الحاكم ديمقراطيا وملتزما الإعلان العالمى لحقوق الإنسان ومدافعا عن الحريات والحقوق وداعية للسلام والقيم الرفيعة.
●●●
يستعد أوباما هذه الأيام لمواجهة طويلة مع الرأى العام الأمريكى بدأها نهاية الاسبوع الماضى بمؤتمر صحفى حول الصلاحيات الممنوحة لوكالة الأمن القومى «أُم الوكالات الاستخباراتية الأمريكية» هذه الصلاحيات تمنحها حق الحصول على كل المعلومات المتوفرة لدى شركات القطاع الخاص عن المواطنين، علما بأن بعض هذه المعلومات وفرها المواطنون بحسن نية وباطمئنان وثقة فى أن القانون يمنع الشركات من سوء استغلال هذه المعلومات. ومع ذلك فإن كثيرا من هذه المعلومات يمكن أن تتسرب من الشركات الخاصة إلى عصابات تمارس الجريمة المنظمة وأحزاب وجماعات سياسية تستخدمها فى تنفيذ أغراض غير مشروعة. نذكر أن تصريحات معينة اعترفت ثم أنكرت أن جماعة سياسية فى مصر باشرت التنصت على مواطنين مصريين مستخدمة نفوذها فى إحدى شركات الاتصالات الخاصة.
●●●
اعتقد أن أوباما أو غيره من الحكام بل وشركات القطاع الخاص، سوف يتمسكون بهذه الأوزة التى تبيض لهم ذهبا ولن يتركوها تضيع من أيديهم، وسيجدون بين ترزية القوانين فى أمريكا وغيرها من يخلصهم من الحرج، إن وجد. وسيجدون من الحقوقيين الأمريكيين الذين تخصصوا خلال العقود الأخيرة فى معضلة حقوق الإنسان المصرى وغيره التفهم اللازم. لم نسمع من هؤلاء التنديد بالاغتيالات فى اليمن التى تنفذها طائرات الدرون بناء على معلومات تجسس قامت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية، رغم أن بين القتلى مواطنين أمريكيين نفذ فيهم حكم الإعدام بدون محاكمة وبعيدا عن الشفافية ولم يتح لواحد فيهم حق الدفاع. ولم نسمع حتى الآن عن ثورة غضب بين دعاة الديمقراطية وحريات الانسان من أجل حماية اتصالات المواطنين وحرمة منازلهم.
●●●
يكفى على كل حال أن رجلا واحدا يدعى سنودن تمرد فكشف عن هول المشكلة وفرض على الرئيس الأمريكى أن يعلن امام الأمريكيين كافة عن نيته إعادة تنظيم منظومة التنصت.