فى عالم اليوم لا يقتصر الاستثمار فقط على قطاع المال والأعمال بهدف تحقيق أكبر هامش ربح، بل يتسع مفهوم الاستثمار ليدخل عالم السياسة بقوة من خلال محاولات بناء وتقوية بعض النخب ومراكز القوة الجديدة.
تشهد مصر اهتماما غير مسبوق من مختلف الدوائر الأمريكية فى إطار سعى واشنطن لاستثمار سياسى جديد يضمن لها استمرار خدمة مصالحها الإستراتيجية الثابتة داخل مصر وفى محيطها العربى.
وتهدف واشنطن من وراء جهودها الاستثمارية السياسية الجديدة إلى خلق دوائر مصرية منتفعة من بقاء وتجديد «العلاقات الخاصة بين القاهرة وواشنطن»، لذا لا يمر أسبوع منذ انتخاب الرئيس محمد مرسى، إلا وتشهد القاهرة زيارة مسئول أمريكى أو رجال أعمال أو كليهما معا.
●●●
خلال عقود حكم الرئيس السابق اعتمدت واشنطن على فئة معروفة من رجال المال والأعمال المصريين ممن يقدرون «خصوصية العلاقات بين الدولتين» لما يدره ذلك عليهم من نفع مباشر. بعض هؤلاء يقبعون الآن خلف قضبان سجن طرة، وبعضهم هرب للخارج. ورغم أن هناك بعضا منهم استطاع تجنب المصيرين السابقين، إلا أن صعود طبقة جديدة من رجال الأعمال المحسوبين على حكام مصر الجدد يمثل فرصة جيدة ترى واشنطن ضرورة اقتناصها.
ورغم أن تحالف القاهرة مع واشنطن خرج من رحم موقف السادات ومبارك من عملية سلام الشرق الأوسط، فإن واشنطن رأت وجوب خلق طبقة مصرية تستفيد من هذه العلاقات الخاصة فى شقيها الاقتصادى والمالى. لذا عرفت واشنطن أثناء حكم مبارك زيارات وفود «طرق الأبواب» التى كانت تضم أعضاء من غرفة التجارة الأمريكية فى مصر وعدد من رجال الأعمال وممثلى الشركات الأمريكية، وكان برنامج هذه الزيارات يتضمن لقاءات مع مسئولين أمريكيين، وبعض أعضاء الكونجرس ومساعديهم، وخبراء مراكز الأبحاث، والغرفة التجارية الأمريكية بواشنطن. وهدفت الزيارات دوما لتوصيل رسالة مفادها ضرورة الحفاظ على «خصوصية العلاقات». كما نال هذه المفهوم دعم مافيا استيراد القمح الأمريكى، إضافة إلى دعم عملاء ووسطاء تجارة السلاح الأمريكى لمصر.
●●●
لا يقتصر استثمار واشنطن على رأس المال الأمريكى فقط، فهى من أكبر الداعمين لجهود صندوق النقد لإقراض مصر 4.8 مليار دولار، كما أنها على تواصل وثيق مع المانحين الآخرين فى الخليج لدعم الاقتصاد المصرى!.
خلال الأشهر القليلة التى تلت سقوط نظام مبارك، أنفقت واشنطن ما يزيد على 150 مليون دولار على برامج استهدفت «مساعدة عملية التحول الديمقراطى». وشملت هذه البرامج التدريب على بناء القدرات التنظيمية للأحزاب السياسية بحيث تستطيع هذه الأحزاب المشاركة بفاعلية فى العملية الانتقالية فى مصر. كما مثلت «الإدارة الفعالة للانتخابات» و«الحكم الرشيد» و«تعزيز المجتمع المدنى» محور العديد من البرامج الأخرى.
إلا أن صدمة الانتخابات البرلمانية، ومن بعدها الانتخابات الرئاسية، فى كونهما أديا لصعود قوة إسلامية لا تعرفها واشنطن ولم يصلها من قبل ثمرات الاستثمار الأمريكى فى مصر، كانت كبيرة. لذا يزعج واشنطن عدم معرفتها الجيدة بالنخبة المصرية الجديدة التى أصبح لها دور متزايد فى صنع السياسة المصرية تحت رئاسة مرسى، خاصة فيما يتعلق بملف إسرائيل، وملفات التعاون الأمنى، وملف السياسات الاقتصادية، خاصة أنها كانت تعرف بدقة صانعى هذه السياسات فى عهد مبارك.
●●●
لذا يجىء ضخ استثمارات أمريكية جديدة كمحاولة جادة لاستيعاب ما تعده صدمة نتائج أول انتخابات حرة فى التاريخ المصرى. أظهرت الانتخابات الحرة أن حلفاء واشنطن التقليديين من ليبراليين وعلمانيين يصعب الاعتماد عليهم بسبب انكشاف حقيقة ضعفهم الشديد. وأظهرت نتائج الانتخابات أيضا أن ملايين الدولارات من أموال دافعى الضرائب، والتى أنفقتها المنظمات الأمريكية فى مصر خلال العام الماضى لم تؤت ثمارها المرجوة.
تدرك واشنطن أن مصر الديمقراطية ستكون دولة أكثر قوة والأهم دولة أكثر استقلالا، لذا لم تجد أمامها إلا بديل الضخ باستثمارات جديدة لعلها تؤتى ثمارها. ويتوافق هذا الطرح مع ما أكده الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى خطابه المهم عن ثورات العرب، والذى حضرته شخصيا فى وزارة الخارجية الأمريكية يوم 19 مايو 2011. وذكر أوباما خلاله أن أمام بلاده بابا مفتوحا من أجل بسط نفوذ أمريكى أوسع بالشرق الأوسط فى صور جديدة، وأن هناك فرصة تاريخية لدعم المصالح الأمريكية عن طريق مواصلة جهود توسيع نطاق مشاركة واشنطن مع دوائر النخب الجديدة خاصة الشباب منهم.
ورغم أن تداعيات الثورة المصرية وصولا لانتخاب رئيس جديد تمنح واشنطن فرصة حقيقية للتصالح مع الشعب المصرى عن طريق إظهار احترامها لاستقلالية السياسة الخارجية المصرية، وإظهار استعدادها للمخاطرة ببعض ثمرات علاقاتها الخاصة مع نظام حكم مبارك، خاصة فى مجال التعاون الأمنى والاستخباراتى والعسكرى. إلا أن واشنطن تحاول نقيض ذلك، وتسعى أن تنقل مفهوم «خصوصية علاقاتها بالقاهرة» لعصر ما بعد مبارك. تخشى واشنطن أن يقدم الرئيس مرسى على تغيير نمط العلاقات المصرية الأمريكية عما كانت عليه فى عهد الرئيس مبارك. وتخشى أن يخطط لإعادة تحديد أولويات الأمن القومى المصرى وتوسيع دائرة العلاقات الدبلوماسية فيصطدم بما تراه واشنطن خطوطا حمراء.
●●●
دوائر الحكم فى واشنطن مازالت ترى أن تعاملها مع دولة مصرية ديمقراطية بطريقة مختلفة ليس ضروريا بعدما تمرست واعتادت إداراتها الديمقراطية والجمهورية، على التعامل السهل مع نظام ديكتاتورى لا تهمه بالضرورة مصالح مصر العليا لأكثر من ثلاثين عاما.
هل سيستطيع الرئيس محمد مرسى أن يفرض على واشنطن تقبل نتائج الديمقراطية المصرية وإيجاد معادلة تخدم مصالح الدولتين؟ أم أنه سيثبت لواشنطن أن عائد استثماراتها يستحق القيام بكل هذه الزيارات والجهود.