ذات مساء صيفى، عام 1989، كنت أجلس فى حديقة نقابة الصحفيين، قبل أن تتحول إلى علبة أسمنتية موحشة، وفجأة دخل ثلاثة أو أربعة أشخاص، أحدهم كان نحيلا ومرهقا ومغبرا، وتبدو عليه علامات التعذيب.
هذا الشاب الأربعينى وقتها كان محمد السيد سعيد، وكان خارجا لتوه من اعتقال دام شهرا بتهمة التضامن مع عمال مصنع الحديد والصلب.. وهى التهمة التى تحولت بقدرة قادر إلى الانتماء لتنظيم سرى تروتسكى وما يتبعها من تهم أخرى تبدأ من تأليب الطبقات وتنتهى بإسقاط نظام الحكم. فى هذا الوقت بدأت أتعرف وأنا فى مقتبل حياتى المهنية على هذا الرجل ثم صار أحد مصادرى الرئيسية فى التحقيقات السياسية.
ومن أول وهلة وقعت فى حبه، وعندما أخبرت أحد الأصدقاء بذلك لم يتعجب وقال أى إنسان يعرف هذا الرجل ولا يحبه أو يحترمه فهو شخص غير سوى.
ذهبت إلى دبى للعمل وفوجئت به ذات يوم يدخل مكتبى، فقد جاء للتعاقد مع جريدة «البيان» ليعمل مديرا لمكتبها فى القاهرة.
قابلت مصريين وعربا كثيرين يأتون للتفاوض أو البحث عن عمل فى الخليج، لكنى لم أقابل شخصا بمثل هذا الشموخ والتعفف والاستغناء عن المادة، فى هذا الموقف وذلك الوقت شعرت بالفخر أننى مصرى لأن هذا الرجل مصرى.
ولأنه مصرى من معدن مختلف فلم يعمر فى مكانه طويلا، وأول شىء فعله كان التأكد من حصول كل الزملاء العاملين معه فى المكتب على حقوقهم أولا، فى ظل عادة قبيحة مفادها أن الوظيفة الرئيسية لمديرى مكاتب الصحف العربية فى القاهرة هى سرقة عرق وجهود الصحفيين العاملين معهم أولا.
وإذا كان تعريف كلمة «يسارى» هى الانحياز الحقيقى لمصالح الفقراء والبحث عن العدالة الاجتماعية المفقودة فإن محمد السيد سعيد يعد أول اليساريين وأشرفهم، فى زمن امتهن فيه كثير من اليساريين بيع مواقفهم وتاريخهم لمن يدفع أكثر.
وإذا كان تعريف كلمة «ليبرالى» هى الانحياز للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فإن محمد السيد سعيد هو الليبرالى الأول فى مصر، فالرجل دافع عن كل هذه القيم دون أن تنحرف بوصلته يوما إلى مؤسسات تمويل مشبوهة فى الغرب أو حركات ومنظمات ترفع شعارات براقة وتعمل فى خدمة أجهزة مخابرات كبرى أو حتى صغرى.
يمكن أن تقول كل ما هو نبيل عن هذا الرجل، لكن الصفة الأكثر التصاقا به أنه إنسان.. أحد الزملاء قال لى إن ريفيا بسيطا جاء إلى جريدة «البديل» ليقدم شكوى، فرآه محمد السيد سعيد، وكان الوقت فى بدايات اكتشاف مرضه، ورغم ذلك قطع كل الجريدة طولا وعرضا ليبحث له عن كرسى، وعندما وجد الكرسى حمله، وعاد به للرجل ليجلسه عليه.. محمد السيد سعيد يفعل ذلك لأنه يؤمن به، ولا يفعله ادعاء أو منظرة، كان يبحث فعلا عن اشتراكية حقيقية ذات وجه إنسانى.
الآن وقد رحل محمد السيد سعيد عنا، اكتشفنا فجأة كم كان عظيما وجميلا.. لماذا لم نخبره جميعا كم كنا نحبه، ونجله ونحترمه.
لو كنت صاحب قرار لكنت صممت صومعة ليجلس فيه محمد السيد سعيد وأمثاله، كى يفكروا لنا ماذا نفعل وكيف نحل مشاكلنا، لو كنت مسئولا، ما تركت هذا الشخص ينشغل بأمور يمكن للأشخاص العاديين أن يفعلوها، كيف نترك هذه العقلية المولدة للأفكار والموغلة فى التخيل والابتكار تغرق فى تفاصيل ودهاليز العمل اليومى والروتينى؟.
ليس السرطان وحده هو من اغتال الرجل، لقد اغتاله التخلف والجهل وتحالف الأغبياء والمناخ الفاسد الذى يحارب كل عقل حر ومبدع يرفض الدخول فى حظيرة المصفقين.
العزاء لنا جميعا ولأسرته ولكل محبيه وللعزيزة نور الهدى زكى.